بلا شك يمثل رمضان أعلى نسبة مشاهدة للشاشة لذلك يبذل صناع الإعلانات أقصى جهدهم لجذب المشاهد الذى يتحول لضحية الذهنية أو الرؤية الحاكمة لأصحاب الوكالات الإعلانية وملاك الفضائيات الذين لا يهمهم- وهذا حقهم- إلا الاستحواذ على أكبر نسبة من الإعلانات، ولكن ما ليس من حقهم العصف بحق المشاهد فى الاستقرار النفسى واستفزازه وتعكير صفوه وتسطيحه وإشاعة ثقافة الغيبيات والخرافات ثم تشويه التاريخ والثوابت الوطنية وذلك ملحوظ فى كثير من المادة المعروضة فى رمضان 2014، وعلى سبيل المثال مسلسل مثل الوصايا السبع بدأت حلقاته الأولى مبشرة وغير نمطية مع بطولة جماعية وأداء قوى لمجموعة الممثلين ومخرج اجتهد لإبداع صورة تتسم بالثراء وموسيقى تبحر فى تراث صوفى شديد الجاذبية، وكل هذا أعطى زخما مغايرا للدراما، لكن للأسف كل هذا تحول من بشرى للجودة إلى نقمة، لأن الكاتب أصر على إغراقنا فى بحر الغيبوبة والغيبيات والخرافات وليته استخدم تيمة أو قماشة العمل لتقديم رسالة تنويرية وإعادة اكتشاف هذا العالم الثرى الجذاب الذى يعطى خصوصية نادرة للبيئة المصرية، لكن الخطوط أفلتت منه وأغرقنا فى تيمة المقامات والخزعبلات والمنامات فى إفراط حول البدايات المدهشة للعمل لكوابيس مقززة تمتزج فيها جثث الموتى بإجهاض الحوامل وإفراط ممل فى حديث الصوفية الذى سبق تناوله دراميا فى أعمال عديدة مثل الطوق والأسورة ليحيى الطاهر عبدالله والحلمية لأسامة عكاشة وأشباح المدينة لكاتب هذه السطور، ولكن المعالجات السابقة اتسمت ببعد اجتماعى وجمالى لا يجرح المشاهد ولا يقرفه مع عدم التكرار المجانى الذى يفسد الدراما ويجهض الترقب والفضول لمعرفة الحدث، وعموما أنا أحيى جهد مجموعة الممثلين خصوصا سوسن بدر ورانيا يوسف وهنا شيحة ووليد فواز وشيرين الطحان وهيثم زكى ومحمد شاهين وألفت إمام وصبرى فواز، أما المسلسل الذى تحدى كل القواعد وحطمها فهو سراى عابدين وقد سبق وتناولنا بعض ملامح الجريمة الفنية والعلمية ولكن ما يثير الغرابة أن صناع العمل يتحدثون عن حرية الإبداع وهم يضربون عرض الحائط بالإبداع والحرية معا، فهم يقولون إنهم لا يقدمون تاريخا ومن يريد التاريخ يقرأ كتابا، هذا ما قالته يسرا وفى نفس الوقت تقول إننا لم نعرف الخديو إسماعيل إلا من المسلسل كما لم نعرف صلاح الدين إلا من الفيلم وهذا تناقض رهيب وكلام يرد بعضه على بعضه لأن تلقى المشاهد معلوماته عن الشخصية التاريخية من العمل الفنى يلزم بالضرورة صناع العمل بتحرى الدقة وعدم الانقلاب على الإجماع التاريخى مع حرية المؤلف فى التفاصيل وتقديم معالجات فنية لا تعارض الحقائق التاريخية ليصبح العرض الفنى مائدة جذابة للمؤرخ دون تعارض وإلا صار تشويها متعمدا وتجهيلا مؤثما.
بعيدا عن هذين المسلسلين يمكن القول، إن هناك مسلسلا نجح صناعه فى الحفاظ على تماسك خيوطه واتزان إيقاعه من الحلقة الأولى وهو مسلسل «عد تنازلى» الذى دخل منطقة مثيرة وعرض قضية نعانى منها وهى صراع الداخلية مع التنظيمات الإرهابية، واختراق الإخوان للداخلية فى حقبة ما بعد ثورة يناير، وكيف أن العقيدة القديمة للشرطة تحول إنسانا عاديا لإرهابى تتلقفه هذه الجماعات وتوظفه. العمل جذاب وقدم طارق لطفى كنجم كبير وكذلك عمرو يوسف ومحمد فراج فى سيناريو حافظ على الإيقاع رغم هشاشة منطق الشيخ الأمير وضعفه وكان يحتاج تأصيلا نظريا أعمق لكن العمل عموما جيد، المسلسل الآخر الذى يستحق التحية لأنه سبح منفردا فى بحر الدراما شكلا ومضمونا هو «إمبراطورية مين؟» لهند صبرى، وشاهين، وسلوى خطاب، وكاتبه، ومخرجه، ومنتجه كل التحية، هذا عمل متميز بكل عناصره ولا أرى مبررا لمن هاجموه سوى عشق دفن روؤسنا فى الرمال، إنه كوميديا سوداء راقية جدا وما أحوجنا لمن يضحكنا على بلاوينا ولا يستخف بعقولنا.