قابلته بعد يومين من هذا الشهر الكريم، كان الجالسون فى المقهى قد ابتعدوا عنه إلى الشارع الذى وضع فيه المقهى شاشة تليفزيونية كبيرة تذيع ماتش الجزائر وألمانيا، لهذا السبب كان المقهى شبه خال، صافحنى وجلس واضعًا صحفه القديمة التى لا تفارقه على المنضدة وقال:
- أول مقهى خالٍ فى رمضان فى التاريخ.
قلت:
- بسبب المباراة بين الجزائر وألمانيا، المقهى فى الشارع، كأس العالم ألا تتابعها؟
- هل تتابعها أنت؟
- لا وإن كنت أحيانًا أفكر فى ذلك لكن عادة أنسى.
ضحك وقال:
- صعب جدًا أن تكون وحيدًا فى رمضان.
- هذا كان زمان، الآن قد تتجمع العائلة عند الإفطار ثم بعد ذلك يجلس كل واحد على اللاب توب وينسى الآخر، اجتماعات شكلية يعنى.
- لكن هناك ناس كتير سافرت أمس الأول إلى بلادها فى الصعيد وبحرى.
- عادة طبعًا، لكن ليست دليلًا على الترابط الاجتماعى كما كان قديمًا، لابد أنهم عادوا أمس أو سيعودون اليوم، زمان لم يكن أحد يفكر فى ترك عائلته أصلا.
- يا إلهى، هل تتذكر ذلك الزمن؟
- زمنى وزمنك كيف ننساه، زمان كان فيه أفلام حول الصعيدى أو البحيرى الذى ينزل إلى القاهرة، تتذكر طبعًا «ابن النيل» مثلا أو «شباب امرأة».
- من ينسى شكرى سرحان أو تحية كاريوكا.
- كان وفود الريفى للقاهرة ظاهرة، الآن العكس ذهاب ابن المدينة للريف ظاهرة.
ضحكنا وكان صوت المذيع للماتش يأتى إلينا مزعجًا، كان عاليًا جدًا ويتحدث عن أشياء غربية بعيدة عن الكرة، قلت:
- سأطلب من الجارسون أن يخفض الصوت.
- لا تتعب نفسك، لن يستجيب.
- مذيع غريب يقول إن الجزائر اليوم ستدخل التاريخ، أسمعه يردد ذلك أكثر من مرة.
ضحك وقال:
- التاريخ لا يدخله إلا واحد فى الحكومة، حتى لاعبو الكرة لا يدخلونه، المذيع يبالغ فى الكلام، أنا منذ أيام كنت هنا ولم أجدك وكان نفس المذيع يعلق على مباراة بين البرتغال فيما أظن وألمانيا سمعته يتحدث عن فيكتور هوجو وفولتير.
- من؟
- فيكتور هوجو وفولتير وجان بول سارتر كمان.
انطلقت أضحك فقال ضاحكًا بدوره.
- سألت الجارسون عن اسمه قال فيما أظن «الشوالى»، من تونس تقريبًا.
وضحك ثم قال:
- تصورته ناقدًا أدبيًا يذيع ندوة أو لقاء فى المجلس الأعلى للثقافة.
ضحكت من جديد، قلت له:
- إذن أنت تترك البيت كثيرًا الآن.
- زهق من الحر وانقطاع الكهربا، وكمان بيقطعوا الميه دلوقت.
- صحيح.
وسكتنا لحظات وسألته:
- وطبعا تركب تاكسى؟
- طبعا لا أتحمل المواصلات العامة.
- لكن ذلك يكلفك.
- ماهم زودوا المعاش عشرة فى المية.
سكت كاتمًا ضحكى، ثم قلت:
- هذا يحدث كل عام، ولا أعرف لماذا صدر قرار جمهورى بالزيادة.
- أنا تصورتها زيادة على العشرة فى المية العادية، لكنها طلعت هى هى، قلت يمكن عايزين يطمنونا أنها مش حتنقطع.
ضحكنا من جديد بصوت عال هذه المرة ثم سألنى:
- هل تدخل على الإنترنت؟
- أحيانًا.
- دخلت ليلة رمضان أشوف الدنيا.
- شفتها؟
- شفتها، الولاد نازلين تريقة على الدولة، وكلام كتير عن زيادة أسعار البنزين والسولار ونقد جامد أوى عن البنات الكثير اللى مقبوض عليهم.
- فى الحقيقة هم كتير.
- بس الولاد مافرقش معاهم إن بكرة رمضان.
- شفت حاجة عن جهاز علاج الإيدز وفيروس سى؟
- ماتفكرنيش، بس كان فيه عاقلين زعلانين علشان الناس اللى كان عندها أمل.
- حيستنوا ست شهور.
- وييجى ولا يروح.
- مين؟
سكت لحظة وقال:
- على فكرة عايز أقول لك حاجة غريبة بتحصل.
خير.
- فاكر آخر مرة قعدنا هنا؟
- تقريبًا.. أيام الانتخابات والجرسون اللى كان عايز يسافر يصوت فى بلده خايف من الغرامة، وإنت قلت له أقعد ماتخافش.
- الكلام كله لاقيته منشور فى جرنال «اليوم السابع» بعد يومين.
نظرت إليه مندهشًا ومذهولًا، ثم وجدت نفسى أضحك.
- إنت بتقول إيه؟
- زى ما باقولك كده.
- يعنى إيه؟ فيه حد بيسمعنا؟
- أو بيسجل لنا.
- ياراجل بتقول إيه، طيب آدينا لوحدينا وصوت المذيع عمال يتكلم عن اللقاء التاريخى والقومية العربية مالى الدنيا ولا يمكن ينفع معاه أى تسجيل.
- أنا قريت الكلام كله، ولو أعرف إنك هنا كنت جبت الجرنال معايا.
- يانهار أبيض، على كده ممكن نروح فى داهية.
- مش عارف، على أى حال أبقى تابع الجرنال بعد بكرة.
- ياعم أنا لا هاتابع ولا غيره.
- هتسكت دلوقت؟
- لا طبعًا هاتكلم.
- هتقول إيه؟
- هاقول إن الريس طلب يأجلوا رفع سعر البنزين لبعد العيد، وهيرجع يطلب ما يرفعوش سعره خالص.
- كويس.
- وهاقول إن مافيش حد مقبوض عليه وبالذات البنات، وأسماء زى يارا وماهينور وسناء وغيرها، دى أسماء حركية ووهمية، وكمان أسماء الولاد مش موجودة فى مصر.
- وإيه تانى؟
- وإن العشرة فى المية زيادة المعاش دى غير الطبيعية بتاعة كل سنة، بس إحنا بنزايد على الحكومة.
ضحك وقال:
- وأنا كمان ممكن أقول لك إن الضباط المساكين اللى ماتوا فى الفرقعة عند الاتحادية دول ماماتوش ولاكانش فيه أى فرقعة، ولا أى تقصير من الداخلية، ولا حاجة.
- وإن لا الكهربا ولا المية بتنقطع وانت بتنزل من البيت علشان تبص على البنات.
- لا والنبى بلاش دى لحسن عقوبتها مش هاستحملها، دا بيقول لك المزة بتلات سنين.
- إيه الوزة بتلات سنين تقصد إيه؟حرامى وز حضرتك؟
- المزة، يعنى لو قلت لواحدة يامزة تاخد تلات سنين حبس.
- يانهار، خلاص يبقى إنت بتنزل من البيت علشان توزع فلوس على الغلابة.
- أيوه صح كده.
وسكتنا لحظات نكتم ضحكنا حتى قال:
بلاش دى كمان لحسن الغلابة يسمعوك وييجوا لى لحد البيت، ياعم هاوزع على مين ولا مين!