أتدرك أيها القارئ معنى الهزيمة.. ربما يرى المتمسكون بالحياة أنها الموت.. وربما يراها أبناء الدنيا أنها خسارة المال أو الولد أو الأرض..
الهزيمة ياسادة ليست هى ما انتهيتم إليه أو تخشون الانتهاء إليه.. الهزيمة هى استمرار لحظة الاحتضار، والاحتضار هو أن تُسلب حياتك ولا يتسلمها الموت، فيصبح الموت هو طوق الخلاص من هذه اللحظة.
هل تعلمون معنى أن يصبح وجودك كله لحظة احتضار.. هل تعلمون معنى أن تصبح كل الكائنات المحيطة بك مسوخ لا تنتمى إلى مبتدأ الحياة أو إلى منتهى الموت.. هل تعلمون معنى فقدان القيمة والاحساس بالآخر حتى لو كان غير موجود.
الهزيمة ليست الموت أو خسران المعركة أو خسران المال أو خسران الأرض.. الهزيمة هى الضياع بين الحياة والموت..
الهزيمة هى ما نعيشها الآن لا نملك إلا مشاهد مشوهة غير مرتبة تتواتر على ذاكرتنا تؤكد كل لحظة مرارة الهزيمة التى لم تنته..
من المشاهد المغيمة فى ذاكرتى لحظات صبا فى المدرسة كنا نتسابق وقتها على جمع دوريات المجلات الخاصة بأعمارنا والاحتفاظ بكل أعدادها مرتبة من العدد الأول حتى العدد الأخير، وكان كل صبى منا يضع علامة على كل مجلة من مجموعته لتمييزها، وكثرت العلامات وحدث أن وضعت النجمة السداسية لتمييز مجموعتى، فما كان لى إلا عزوف زملائى عنى، واستدعاء ناظر المدرسة لوالدى لمناقشته فى تصرفى ومعنى وضع أحد أبنائه علامة الصهيونية على مجلاته فى وقت كان العداء للصهيونية وللعنصرية هو جزء من إنسانية الوطن.!
ويشرح لى والدى معنى الرمز والشعار وأهميته ولا يتطرق إلى شرح معنى الصهيونية والعنصرية فقد كانت بديهيات فى المكون الأول من وعينا.. يتواتر هذا المشهد فى ذاكرتى ويصطدم بمشاهد أشلاء أطفال غزة وسوريا والعراق وشباب مصر وجنودها، وبواقع العرب المميز بعلامات صهيونية واضحة تتلاعب بأقداره، ويصطدم بمسوخ داخل حدود الوطن ترفع القبعات للقتلة وتطارد المدافعين عن وطنهم بالحجارة وبقايا كلمات مخنوقة فتؤكد داخلى الهزيمة وتمد من لحظة الاحتضار التى تدفع بالحياة والموت بعيداً.
أيضاً من المشاهد التى تتواتر فى ذاكرتى مشهد مدرس التاريخ وهو يشرح لنا أهمية دراسة التاريخ ومعنى كلمة الوطن ومعاناة المصريين من أجل الحرية والاستقلال ورفضهم لمخططات الاستعمار للتفريق بين عناصر الأمة بتمييز المسلم عن المسيحى، وكيف وأن أدمعت عينه وهو يسرد لنا قصص من خارج المنهج عن قساوسة ومشايخ وحدوا جهودهم لمواجهة الاستعمار ودمجوا الهلال مع الصليب فى رمز واحد... تصطدم هذه الذكريات بمشهد معاصر لورقة إجابة ابنتى فى مادة التاريخ وعلى إحدى الإجابات علامة "خطأ"، رغم صحة الإجابة، وكان السبب أن أحد عناصر إجابتها بها عبارة "ورفع المصريون شعار الدين لله والوطن للجميع" ( كما شرحت لها ) ، وهى إجابة صحيحة ولكنها غير موجودة فى المنهج ولا متفقة مع ميزاج المدرسة التى رأتها عبارة علمانية كافرة.. ولم أجد تفسيرا لابنتى سوى صمت أشبه بصمت الاحتضار.
الهزيمة هى أن تصبح كل لحظات الوطن لحظات احتضار بين الحياة والموت.. لحظات يفقد فيها الوطن ملامحه وهويته وطرقه فيضيع أبناؤه بين ثنايا التشوه والدمار ويتحولوا إلى مسوخ فقدت الحياة وتتوق للموت.