إن الله تعالى خاطب سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم فى سورة الجاثية آية 18 فقال: «ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ»، والشريعة هى الطريقة الإلهية التى يوحى بها الله إلى الأنبياء والمرسلين، وأمر المكلفين بتحريها لكونها السبيل لتحقيق السعادة فى الدنيا والآخرة طبقاً لما يعتقده من آمن بالإسلام قال تعالى فى سورة طه آية 123 : 124 مخاطباً سيدنا آدم والسيدة حواء عليهما السلام بعد هبوطهما إلى الأرض ليعيشا فيها مبيّنا سبيل السعادة: «قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى»، وقد شاعت فى القرآن الكريم الآيات المفصحة عن التكليف الوجوبى بفريضة تحكيم الشرعية الإسلامية منها قوله تعالى فى سورة النساء آية 105: «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا»، وقوله من سورة الشورى آية 10: «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ»، وبالتالى فلِأُمة الإسلام شريعة إلهية واحدة، واجبة التحكيم، لأنها حكم الله وحاكميته فى هذه الأمة.
لكن هل يعنى حكم الله بحاكمية الشريعة الإسلامية الواحدة، انتفاء الحاكمية البشرية المعروفة بمصطلح «الأحكام الوضعية» أى الأحكام التى يضعها البشر فى صورة قوانين وشرائع وضعية؟ نقول الإجابة لا، فشريعة الله التى تعبر عن حكمه لا تلغى حاكمية البشر بل تأمر بها.. حتى قال الإمام ابن حزم الأندلسى عبارته الجامعة وكلمته البالغة، فى تقرير حق الحاكمية للإنسان: «إن من حكم الله أن يجعل الحكم لغير الله»، فالإسلام وكّل مهمة تنفيذ القانون الإلهى فى الأرض للإنسان، واستخدم لفظ «خليفة» و«استخلف» ليعبر عن ذلك كما فى قوله تعالى من سورة البقرة آية 30: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً»، وقال تعالى فى سورة النور آية 55: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِى الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ»، قال الأستاذ أبو الأعلى المودودى: «إن فى الخلافة معنى الحاكمية والسلطان.. والإنسان فى نظام العالم، هو حاكم الأرض.. وهو حكم مفوض إليه بالاستخلاف عن الله»، فالقرآن الكريم هو كتاب المبادئ والقواعد الكلية، ومهمته الحقيقية أن يعرض الأسس الفكرية والخلقية التى تحقق مصلحة البشرية طبقاً للنظام الإسلامى، ويؤكد هذه المبادئ بالأدلة العقلية، ويحفز الناس على التمسك بها، أما ما يتعلق بالصورة العملية التفصيلية لمجالات الحياة المختلفة فإنه يتركها للبشر يجتهدون فى سن الأنظمة والقوانين التى تنظمها، بما يحقق مصلحة الناس والتى تختلف باختلاف الزمان والمكان، وبالتالى تنشئ حاكميات بشرية متعددة يحترمها ويقرها الإسلام، ويوجب على المسلمين اتباع ما ينتج عنها بشرط أن تكون منسجمة مع الإطار العام لأسس الشريعة، فالله سبحانه هو الحاكم بذاته وأصله وينتج عن ذلك حاكمية شرعية تحدد الأسس والأصول والقواعد والمبادئ العامة، وهناك حكم البشر وهو موهوب وممنوح من الله لهم بشرط التقييد بالقواعد والمبادئ العامة للشريعة وحكم البشر هذا يقوم به أهل الحل والعقد فى الدولة كل فى مجاله وتخصصه وفى مقدمة هؤلاء البرلمان الذى ينشئ القوانين الوضعية التى تحقق مصالح الناس وتختلف من دولة إلى أخرى باختلاف المصلحة.
لكن هذه القضية وعلى الرغم من كونها من بديهيات الإسلام، هى موضع رفض وإنكار من أعضاء الجماعات المتطرفة الذين ينكرون وجود حاكمية بشرية فى إطار حاكمية الشريعة الإلهية، ويكفرون المجتمع حكّماً ومحكومين لأنهم يحتكمون إلى قوانين وضعها البشر، ويشنون حربهم الإرهابية فى منطقتنا بزعم السعى إلى تحكيم الشريعة، وإلغاء القوانين الوضعية البشرية وهذا يستند عندهم خطأً وجهلاً على قوله تعالى فى سورة المائدة آية 44: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»، ولقد بدأت شبهات هذا الفريق، فى المجتمع الإسلامى، بصيحة الخوارج فى معسكر على بن أبى طالب، إبّان الفتنة عندما صاحوا: «لا حكم إلا لله»، وهم يقصدون تحريم وتجريم حكم البشر فى النزاع الذى ثار بين على ومعاوية حول مقتل عثمان ابن عفان رضى الله عن الجميع، فأقاموا تناقضاً وصراعاً مزعوماً بين حاكمية الله وحكمه وبين حاكمية الإنسان، لكن الإمام على ابن أبى طالب تصدى لهم وجلا هذه الشبهة فقال رضى الله عنه: «إنها كلمة حق يراد بها باطل.. نعم، إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله، وإنه لابد للناس من أمير، برٌ أو فاجر..» فأقر الحاكمية البشرية حتى، وإن تعددت الاجتهادات باعتبارها مقتضى حكم الله باستخلاف الإنسان فى الأرض، وبالتالى فإن آية المائدة أعلاه لا تمنع الحاكمية البشرية، ولكنها تتكلم عن من لا يلتفت لشرع الله بدافع إنكار منه لشرع الله نتيجة لعدم إيمانه بالله وكماله.
وفى عصرنا الحديث، وجدت شبهة الخوارج تلك، مكاناً لها عند بعض الجهلاء الذين لم يفقهوا شيئاً عن الدين، وانتزعوا بعض العبارات من كتب الأئمة واستخدموها فى غير موضعها، سواء كتب الإمام ابن تيمية أو غيره من العلماء، ومنها ما يردده جماعة الإخوان عن الأستاذ المودودى من عبارات يوهم ظاهرها نفى حاكمية البشر ومنها قوله: «إن الأساس الذى ارتكزت عليه دعامة النظرية السياسية فى الإسلام: أن تنتزع جميع سلطات الأمر والتشريع من أيدى البشر، منفردين ومجتمعين..» لقد وقفوا عند هذا النص الموهم نفى الحاكمية بإطلاق عن الإنسان، وتجاهلوا النصوص الأخرى للمودودى، والتى قرر فيها للإنسان حاكمية بشرية وقد ذكرنا طائفة منها أعلاه، وإن هذه العبارة التى ذكرها المودودى يقصد بها أن حاكمية البشر يجب أن تكون منسجمة مع القواعد والمبادئ العامة التى وردت فى القرآن.
هذا وقد أدرك أعداؤنا هذا الخلل الفكرى عند جماعة الإخوان وغيرها من الجماعات المتطرفة، وعملوا على دعم هذه الأفكار ونشرها بين الشباب حتى يدفعوهم إلى تكفير المجتمع، واستباحة محاربته بأعمالهم الإرهابية واستخدم هذه الجماعات بعد ذلك فى تدمير البلاد التى ينتمون إليها، ولعل ما تفعله جماعة الإخوان الإرهابية وتنظيم داعش فى مصر وليبيا وسوريا والعراق خير دليل على ذلك، ولعلكم تتذكرون معى تجمعات الإخوان عقب أحداث 25 يناير بميدان التحرير تحت عنوان «جمعة تطبيق الشريعة» وكانوا يصيحون فيها بشعار «الشعب يريد تطبيق شرع الله»، فهذه الشعارات والتظاهرات جاءت نتيجة للفهم الخاطئ عند الشباب لمعنى الحاكمية، ولو أدرك هؤلاء المعنى الحقيقى للحاكمية لعلموا أن الشريعة مطبقة، وأنه لا يوجد تناقض بين حاكمية الله التى يعبر عنها القرآن وحاكمية البشر ممثلة فى القوانين الوضعية، وأن دستور مصر يلزم البرلمان باحترام قواعد ومبادئ الشريعة عند وضع القوانين.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد
لماذا لا ترد على تعليقات قرائك!!!