قبل يومين مرت الذكرى الثالثة والثلاثون لرحيل الشاعر المجدد الرائد صلاح عبدالصبور، إذ غاب فجأة عن دنيانا فى 13 أغسطس من عام 1981، وهو ما زال على مشارف الخمسين من عمره، إذ ولد فى سنة 1931.
قاد عبدالصبور ورفيقه أحمد عبدالمعطى حجازى - رعى الله أيامه ولياليه - حركة الشعر الحديث فى مصر، واستطاع الرجل أن يخلص إيقاع الشعر من الرتابة والتكرار، كما أنه أسهم بنصيب معتبر فى تعزيز شعر التفعيلة الذى عُدّ ثورة حقيقية ضد العمود الشعرى المستقر من زمن امرئ القيس والذين معه.
خمسة دواوين بالغة الأهمية رسخ بها عبدالصبور المولود الجديد - وأعنى الشعر الحديث - بدأها بديوان «الناس فى بلادى/ 1957»، وأظنك لاحظت أن الاسم يدل على محتوى الديوان، وهو الحديث عن أهل بلده الطيبين من فلاحين وعمال وفقراء، بعد أن كان الشعر قبله إما يحتفى بالملوك والحكام، وإما يهيم فى فضاء الطبيعة ممتدحًا ومنشدًا، وإما يتغزل فى الحبيبة ويبكى على الأطلال!
لكن عبقرية عبدالصبور لا تنتهى عند جرأته فى ابتكار شكل جديد للشعر العربى، والتميز فيه فحسب، إنما فى اقتحامه مجال المسرح الشعرى أيضًا بعد أن تصدر أمير الشعراء أحمد شوقى هذا المضمار، إذ تزعم صاحب «أحلام الفارس القديم» المسرح الشعرى فى شكله وأوزانه وإيقاعاته الجديدة، بعد أن حافظ الذين كتبوا بعد شوقى على النمط الذى ابتكره الأمير، ولم يطوروا لا فى الموضوعات، ولا فى البناء، ولا فى الاتكاء إلى عمود الشعر التقليدى.
«مأساة الحلاج/ 1964» أولى مسرحيات عبدالصبور، والتى كانت نقلة نوعية مذهلة فى تاريخ المسرح الشعرى العربى، وقد نال عنها جائزة الدولة عن استحقاق، ثم أعقب ذلك أربع مسرحيات بديعة هى «ليلى والمجنون/ مسافر ليل/ الأميرة تنتظر/ بعد أن يموت الملك».
لقد اتفق النقاد والقراء على أن هذه المسرحيات تعد نقلة كبرى بالمسرح الشعرى إلى الأمام، وللأسف لم يستطع الشعراء المتميزون الاقتراب من هذا المجال بعد رحيل رائده، وإن كان هناك بعض الشعراء استثمروا علاقاتهم ومناصبهم وكتبوا مسرحًا شعريًا ركيكًا، لكنه لاقى الدعم والمساندة والترويج فترة من الزمن ثم نسيه الناس!
بالنسبة لى يعد صلاح عبدالصبور واحدًا من الكبار الذين أسهموا فى تشكيل ذائقتى ووجدانى، وقد فتنت به افتتانًا خاصًا مطلع ثمانينيات القرن الماضى ونحن على أعتاب الدراسة الجامعية، لدرجة جعلتنى أسعى إلى مقابلته، وبالفعل ذهبنا - صديقى محمد القدوسى وأنا - إلى لقائه فى مكتبه، حيث كان يعمل رئيسًا للهيئة المصرية العامة للكتاب. انتظرنا فى السكرتارية نحو ساعة حتى سُمح لنا بالدخول. استقبلنا ببشاشة وفوجئنا بجسده النحيل إلى حد ما، ولونه الخمرى الضارب للسمرة، وبساطته فى الحديث إلينا، ووافق على إجراء حوار لننشره فى المجلة التى كنا قد أسسناها وأصدرنا منها عددين آنذاك، وهى مجلة «أوراق»، وبالفعل نشر الحوار فى العدد الثالث.
صلاح عبدالصبور شاعر رائد ومجدد وكاتب مسرحى من الطراز الرفيع، يستحق منا كل إشادة واحتفاء، وأظن أن وزير الثقافة الدكتور جابر عصفور - صديقه القديم - لن يتأخر عن استعادة إبداعات هذا الرجل، وتعميمها فى المدارس والجامعات حتى تدرك الأجيال الجديدة عظمة مصر ومبدعيها.