ثمة مفاهيم ومصطلحات يصعب ترجمتها لأنها تعطى معانى ودلالات مغايرة بحسب كل ثقافة، ولعل ترجمة المفهوم الأنجلوساكسونى «واتش دوك» Watchdog إلى اللغة العربية يثير كثيرا من المشكلات، لأنه يقصد به قيام الإعلام بأحد أهم وظائفه، وهى حماية الديمقراطية ومراقبة قواعد اللعبة السياسية وأداء مؤسسات الحكومة والمجتمع المدنى، وضمان شفافية المعاملات المالية والبنكية.
معنى «واتش دوك» Watchdog أو كلب الحراسة، أن الإعلام يقظ، ومتحفز وشرس فى الحق تماما مثل كلب الحراسة، فالإعلام يجب أن يبحث عن الأخطاء أو المزايا، يتابعها مثل الكلب، ويكشف عنها، ويفضحها، والفضح هنا ليس نباحا مثل الكلاب وإنما بالنشر والمناقشة التى تنبه الرأى العام، وعندما أشرح هذه المعانى يحتج طلابى فى أقسام وكليات الإعلام على وصف الإعلام بكلب الحراسة، لأنها قد تعنى ضمنا أن الصحفيين مثل الكلاب، وهو وصف مجازى مقبول فى الثقافة الأنجلوساكسونية مرفوض فى ثقافتنا العربية، التى تحتفى بوفاء الكلاب وإخلاصها، لكنها لا ترى فى وصف الرجل بالكلب شيئا لائقا، بينما يبدو لى أن وصف الإعلام بكلب الحراسة قد يعنى فى الثقافة الأنجلوساكسونية أن الإعلام لديه وفاء كبير «وفاء الكلب» للمصلحة العامة وملتزم بالدفاع عن الحريات وعن مصالح الشعب، فالكلب الوفى يموت دفاعا عن صاحبه، وكذلك الإعلام يجب أن يموت دفاعا عن الديمقراطية والحريات العامة.
فكرت فى هذه المعانى ومفارقات الترجمة عندما قرأت الأسبوع الماضى كتاب «كلاب حراسة الديمقراطية Watchdogs of Democracy» للصحفية هيلين توماس، لبنانية الأصل، عميدة مراسلى البيت الأبيض التى تروى فيه تجاربها الصحفية مع تسع فترات رئاسية، تغيرت فيها ملامح التغطية الإخبارية من الاتصال المباشر والمتكرر مع الرئيس الأمريكى، إلى المؤتمرات الصحفية المعدة مسبقا، والتى يجرى فيها التحكم والسيطرة فى تدفق الأخبار والتلاعب بها، قبل خمسين عاما كانت الأسئلة الصحفية جريئة، وهجومية ولا تخاف من الرئيس أو كبار المسؤولين، لكن منذ تولى اليمين المحافظ رئاسة أمريكا، اختفت الأسئلة الجريئة فى عهد بوش الابن، وانتقدت هيلين دور وسائل وشبكات الإعلام الأمريكية، لأنها تحولت من «سلطة رابعة وكلاب تحرس الديمقراطية إلى كلاب أليفة».
تقول هيلين - توفيت العام الماضى - إن تخوف المراسلين والصحفيين من طرح الأسئلة المهمة أصبحت ظاهرة عامة، حيث تجاهلت المؤتمرات الرئاسية قضايا كثيرة خاصة باحترام الحريات المدنية فى المعركة ضد الإرهاب والقاعدة، وغزو العراق وأفغانستان، ولم تفق الصحافة الأمريكية من غيبوبتها إلا عندما تسرّبت صور التعذيب فى سجن أبوغريب، وترى هيلين توماس أن الصحافة الأمريكية سمحت لإدارة بوش باستخدام السرية والتعتيم الإعلامى فيما يتعلق بكثير من الأمور المهمة، وتناست وسائل الإعلام الأمريكية بذلك دورها فى تقديم الحقيقة كاملة للشعب الأمريكى، وحق المواطن الأمريكى فى أن يكون ملما بحقيقة ما يحدث، مع معرفة كل الأراء.
المعلومات والأمثلة كثيرة فى الكتاب عن تحول الإعلام من كلب للحراسة إلى كلب أليف، وكلما تأملت الوقائع والتفاصيل أقارن بدون وعى أوضاع الإعلام الأمريكى فى عهد بوش الابن وحربه الخاسرة على الإرهاب، بأوضاع الإعلام المصرى ومواقفه الحالية من الحكومة والحرب على الإخوان والإرهاب، والمقارنة تبدو غريبة لكنها تفرض نفسها، خاصة فى ظل المخاوف من أن تؤدى تحديات الإخوان والإرهاب والاعتبارات الأمنية إلى تراجع الحريات العامة، وفى المقدمة الإعلام الذى قد يصبح إعلاما بلا أنياب، أو مجرد كلب أليف مطيع.