تشعبت الفرق والجماعات والمذاهب والحركات الإسلامية إلى المئات عبر التاريخ، بعضها شق طريقاً وسيعاً فى تاريخ المجتمع المسلم، واكتسب قوة بتحوله إلى مذهب أو طائفة أو تنظيم أو تصور فكرى قوى، وأكثرها اختفى بمرور الأيام بعد أن أثار ضجيجاً وعجيجاً لا تزال آثاره مذكورة فى كتب التاريخ الراكدة فوق أرفف المكتبات، من دون أن يكون لها وجود وتفاعل فى حياة المسلمين المعاصرين.
وتنظر السلفية التى تطلق على نفسها «أهل السنة والجماعة» إلى كل هذه الفرق باعتبارها خارجة على «الطريق الإسلامى الصحيح» أو «نهج النبوة»، وأنها لا تمثله ولا تجسده، إنما هى «بدعة»، أى استحداث أمر فى الدين ليس منه. وقد أصبحت هذه الكلمة بمنزلة مصطلح يوظفه السلفيون، وكثير من أتباع الفرق والجماعات الأصولية، ويطلقونه على كل جديد لا يقف عند حد الاجتهاد وتطوير القديم إنما يتجاوز هذا، ويتعاملون معه على أنه «تطوير غير إسلامى للمذاهب والمفاهيم».
واحتفظ الخط «السلفى» بامتداد عبر التاريخ من خلال رموز، أو محدثين وعلماء وفقهاء، لا يزالون يمثلون المرجعية الأساسية له؛ أولهم أحمد بن حنبل، وهو يعد «الناطق الأول بلسان السلف»، والذى خاض معركة شرسة ضد القائلين بـ«خلق القرآن»، مما أدى إلى انجذاب جمهرة من التلاميذ والمعجبين إليه، بعد رفضه إقرار الدولة رؤية المعتزلة فى عهد الخلفاء المأمون والمعتصم والواثق. وقد حددت أقوال أهل الحديث القدامى وجهة تفكير ابن حنبل فى العقائد والفقه على نحو ثابت لم يتغير، لكن جل اهتمامه انصب على تتبع أسانيد الحديث، وليس العناية بأصول الفقه، ولم يلجأ إلى الأخذ بالرأى إلا عند الضرورة القصوى أو الحاجة الماسة، واستغنى عن هذا بالأحاديث حتى لو كانت ضعيفة. وقد أخذ عنه المتسلفة شدته وتمسكه بما يراها الأصول، وتروق لهم دوماً حروبه هو وتلاميذه ضد مخالفيهم فى الرأى ممن أطلقوا عليهم «الواقفية» و«اللفظية»، ويستعيدونها باعتبارها طريق جهاد لا يجب أن ينقطع عنه السائرون.
وقد غالى أتباع ابن حنبل فى التعامل مع غيرهم، وتشددوا أكثر مما كان هو عليه، فكانوا «يسفّهون أهل العلم من مخالفيهم، ويؤذون ويكذّبون، وينادون العامة: اهجروهم ولا تقاعدوهم... وكانوا يكبسون على المحال فإن وجدوا نبيذاً أراقوه، وإن وجدوا مُغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء، واعترضوا فى البيع والشراء، واعترضوا الناس فى الشوارع، فمن رأوه يسير مع صبى أو امرأة سألوه عمن معه، وإلا أوسعوه ضرباً، وحملوه إلى صاحب الشرطة، وشهدوا عليه بالفحشاء».
لكن هناك من يعتبر أن الممثل الحقيقى للنزعة السلفية هو أبو جعفر الطحاوى «239 - 321 هـ» الذى حدد الأسس التى يقوم عليها نهج السلف، وضمَّنها فى كتابه العقيدة الطحاوية، الذى يوافق فى أغلب مباحثه ما يعتقده أهل الأثر، ولذا فهو من أوسع الكتب تأثيراً، ما يعكسه تصدى كثيرين لشرح متنه باستفاضة وامتنان، ومن بينهم دعاة سلفيون تحدثوا عنه فى المساجد أمام أتباعهم، وسجلوا ما قالوه مكتوباً ومسموعاً ومرئياً، بل إن قادة بعض التنظيمات والجماعات المسيسة ذات الإسناد الإسلامى، جعلوا من هذا الكتاب مرجعاً أساسياً وفارقاً فى تحديد وجهتهم العقدية.
وتنطلق «العقيدة الطحاوية» من أن الله واحد أزلى أبدى ومطلق الإرادة والقدرة ولا يشبه خلقه، وأن كل ما ورد بشأن الغيب فى القرآن والسُّنة حق وأمر مفروغ منه ولا جدال فيه، وأن أفعال البشر مُقدَّرة بمشيئة الله وعلمه وقضائه وقدره، وأنه لا يجب تكفير أحد من أهل القبلة ما دام مصدقاً لرسالة الإسلام مهما ارتكب من ذنب، وأن طاعة ولى الأمر فريضة واجبة وإن جار، وأن الصلاة تصح خلف كل بر وفاجر وعلى من مات منهم، وأن من حُسن الدين والإيمان والإحسان حب صحابة الرسول، وحب من يحبهم، وبُغض من يبغضهم.
ووفق هذا التصور العقدى حدد الطحاوى معالم الطريق السلفى: وأولها التسليم التام لنصوص الكتاب والسنة وتفسيرها على إرادة الله وعلمه، بعيداً عن أغراض المؤوِّلين وأهوائهم، وبعيداً عن الجدل والمماراة؛ وثانيها اعتبار أهل القبلة مسلمين مؤمنين ما داموا معترفين بما جاء به الرسول «صلى الله عليه وسلم»؛ وثالثها أن الأصول تتحدد فى القرآن والسنة النبوية وإجماع الأمة؛ ورابعها واحدية الدين فى الأرض وهو الإسلام؛ وخامسها البراءة من أصحاب الأهواء وتابعى المذاهب المخالفة لأهل السنة والجماعة، واعتبارهم قد ضلوا السبيل.
وعلى طريق ابن حنبل والطحاوى، جاء ابن تيمية «661 - 728هـ» ليدافع عما تسمى «سنن السلف» بأدلة لم يسبقه أحد إليها، وخاض هو الآخر معارك دينية ضارية ضد الكسروانيين، بمن فيهم الإسماعيلية والنصيرية والحاكمية، ورفض ما ذهب إليه الخوارج والمرجئة والرافضة والقدرية والمعتزلة والجهمية والكرامية والأشعرية، وهاجم موقف أمراء الطوائف المتخاذل من التتار، وسُجن بجُب فى القلعة بالقاهرة ثلاث مرات لاتهامه بأنه من القائلين بالتجسيم ثم لأسباب سياسية، وسجن أيضاً فى قلعة دمشق لأسباب تتعلق بأحكامه الفقهية، ولهذه المواقف أجَلَّه أهل دمشق، وخرج فى جنازته نحو مئتى ألف رجل وخمسة عشر ألف امرأة.
ويتبع ابن تيمية القرآن والحديث بظاهر لفظهما فى أغلب مؤلفاته، وإن كان قد رأى أنه ليس من الخطأ الاستعانة بالقياس فى بعض الأمور. وهاجم الصوفية، وقَبَّح التضرع للأولياء وزيارة القبور، وكان مسرفاً فى القول بالتجسيد، وقال بخطأ رجال يعدّون حجة فى الإسلام منهم عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب فى كثير من المسائل، وانتقد بشدة كلاً من أبى حامد الغزالى ومحيى الدين بن عربى وعمر بن الفارض.
وفى إطار ما رآه ابن تيمية التمسكَ بالأصول، رفض «البدع»، ورأى أنها «كل ما لم يشرّعه الله ورسوله، وما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب»، ورفض أن يتكلم أى من أئمة المسلمين فى شىء إلا بدليل شرعى. وأصبح اصطلاح «الدليل» هو الركن المكين للطريق السلفى، إذ لا يبت شيوخ السلفية فى أمر إلا بالبحث عما يسمونه «الدليل الشرعى»، ويبنونه من آيات القرآن والأحاديث المنسوبة للنبى وإجماع علماء الأمة السابقين.
د. عمار على حسن
تشريح السلفيين.. أقوالهم وأفعالهم وتنظيماتهم «3 - 9»
الأربعاء، 20 أغسطس 2014 08:18 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة