قبل أن تتنقل بعينيك عزيزى القارئ عبر سطور هذه الزاوية الأسبوعية أحب أن أبين لك ابتداء «واللى أوله شرط آخره نور» أن هذا ليس مقالا يتناول ظاهرة متعلقة بالرياضة كما قد يبدو من عنوانه. حديثى عن فكرة الألتراس ليس مقصودا به ذلك الاصطلاح الدارج الذى يصف رابطات مشجعى الأندية الرياضية وفرق كرة القدم، لكننى أتحدث ها هنا عن ظاهرة فكرية ونمط سلوكى صار يغلب على مجتمعنا فى الآونة الأخيرة. نمط يمارس كل ما يمارسه أعضاء الألتراس الرياضى تجاه من يحبون أو يتبعون ويتعصبون له فى مختلف مناحى الحياة وهذا النمط عادة يكون شخصية انبهارية «مأفورة»، تجده إذا أعجب بشىء غالى فيه جدا وانبهر به كأشد ما يكون الانبهار، واعتبره أهم ما فى حياته حتى إذا حدث خلاف أو وقعت مشكلة بين أحد من الناس وبين من ينبهر به -أو بهم- تجده يتحول فى لحظات إلى وحش مفترس يكاد يفتك بمن أمامه محولا ذلك الخلاف إلى عداوة تاريخية عظيمة رغم أن أصل الخلاف والمختلفين ربما لا يكون لهذه الدرجة، بل ربما تظل أواصر الود بين رؤوس الخلاف أنفسهم تماما كما يحدث فى الأوساط الكروية، حيث تجد الصراع المتعصب بين جماهير الفرق المتنافسة والذى يصل أحيانا إلى الاقتتال والتعارك، بينما تجد اللاعبين «سمن على عسل»، وربما يكونون رغم تنافسهم داخل الملعب أصدقاء أعزاء خارجه، لكن بالنسبة لأخينا الألتراس الفكرى أو السياسى أو الدينى ما فيش وسط.. الحياة بالنسبة له مباراة ساخنة ربما لا يشاهد أغلبها، حيث يكون ظهره للملعب وحواسه منشغلة ببذل أقصى ما يستطيع فى التشجيع حتى يُبح صوته وتكل أنامله فى التهليل المستمر لمن ينبهر به -أو بهم- بالتوازى مع هجومه الكاسح على الأعداء من أبناء وألتراس الفريق الآخر.
والحقيقة أن جزءا كبيرا من الخلافات الفكرية والواقعية المعاصرة يزداد تعقيدها وتتعمق هاويتها بسبب هذا النمط من المشجعين و«الهتيفة» الذين لا يدخرون وسعا ولا يألون جهدا فى تسخين المباراة و«شعللة» الطرفين، وربما ينضم إليهم «المسخناتية» الذين يقتاتون على المشاكل والانقسامات والصراعات، فيتطوعون بالمزيد من إشعال الموقف بين رؤوس المنافسة وقادة الفصائل المتناحرة، وربما تأخذ أحد الرؤوس أو كلاهما العزة بالإثم فيبغى على الآخر، مما يؤدى إلى جلب المزيد من المشجعين، وتعالى صياح المهللين والمهاجمين، من ثم تضيع الحقيقة ويتلاشى المنطق ويغيب الإنصاف والوعى بين آهات التشجيع وتتوارى أصوات العقلاء والمصلحين خلف هتافات المتعصبين، هنا يسيطر هذا النمط الصاخب على المشهد العشوائى ويصبح الإصلاح فى غاية الصعوبة فى خضم ضوضاء الهتاف والتشجيع والهتاف والتشجيع المضاد، والسبب هو تلك الثقافة وشيوع ذلك النمط فى كل محك، نمط الألتراس الفكرى أو الدينى أو السياسى أو الثقافى.
المشكلة الكبرى لدى أصحاب هذا النمط أنهم لا يدركون حقيقة بسيطة للغاية.. حقيقة أن الحياة ليست هكذا.. ليست مباراة بين فريقين متنافسين تتابعهما مدرجات مشتعلة.. ليست تقوم بالصراخ والصخب وإشعال المدرجات. الحياة ليست بتلك البساطة التى تغلب على تلك المنافسات الرياضية الواضحة ذات الفرق المتباينة التى يسهل تمييز كل منها من خلال شعار أو لون «فانلة» وتنتهى بفوز واضح وقاطع لإحدى الفرق. هذا النمط الألتراسى ينبغى أن يفهم خصوصا من خلال من ينبهرون بهم ويتعصبون لهم ويتبعون قولهم أن الحياة أعقد كثيرا من هذا. ينبغى أن يدرك أهل هذا النمط أن المرء لا يحتاج إلى كل هذه الحماسة عند كل محك من محكات الحياة، وينبغى على أصحاب الرأى والمتبوعين ألا يسمحوا بتحول محبيهم ومؤيديهم والمقتدين بهم إلى مجموعات ألتراس تشجعهم على طول الخط وتنهش خصومهم ومخالفيهم بهذا الشكل المحموم.. ينبغى أن يفهم الجميع أن الحياة ليست مباراة كرة قدم!