«1»
فكرة الاختيار من بين متعدد يحاصره قوسين تبدو مريحة ولكنها غير صالحة لكل زمان أو مكان أو قضية.
دعم المقاومة - أى مقاومة - ضد العدو الصهيونى تندرج تحت بند القضايا التى لا يصلح لها وجود أقواس تضم خيارات، الخيار هنا واحد ووحيد.. دعم المقاومة.
إذن ضعها كما تضع الحلق فى طرف أذنيك، حقيقة تقول بأن الحركات السياسية أو المسلحة التى تتصدر مشهد مواجهة العدو الصهيونى تستحق الدعم، ولكنها أيضا ليست فوق النقد والمراجعة والمحاسبة ومحاولة الفهم هل تقاوم من أجل القضية أم تضع مصالحها قبل مصلحة القضية؟
من تلك الأرض الراسخ فى جوفها مبدأ دعم المقاومة ضد الكيان الصهيونى، ننطلق للبحث فى شأن حركة المقاومة الإسلامية حماس وعلاقتها بمصر، وتحديدا التأمل فيما يمكن استخلاصه من رحلة تغير موقف حماس من القاهرة خلال 45 يوما.
«2»
فى قصة الخمسين يوما الخاصة بالعدوان الصهيونى الغادر على قطاع غزة تتجلى صورة واضحة لحركة حماس تبدو فى نصفها الأول وهى تشتم وتخون مصر فى كل الساحات الدولية، بينما تظهر فى نصفها الثانى وهى تصالح وتسترضى وتعترف بعظمة مصر، ولكن فى أصغر حارة ممكنة.
المولعون بالزواحف يعرفون تماما أن الحرباء تتلون وفق الأرض التى تقف عليها، والعالمون بشأن واقع العملية السياسة يعلمون جيدا أن الحركات السياسية تتلون وفق الأرض التى تضم مصالحها، ومن هنا يمكنك تفسير تغيير ألوان تصريحات قيادات حماس من لون تخوين مصر ومساعدتها إسرائيل فى الحرب إلى لون القصيدة القائلة بأن مصر الشقيقة الكبرى ودورها التاريخى والإقليمى محل تقدير.
عند تلك النقطة يجوز التوقف لطرح سؤال من نوعية كيف تحولت المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار فى غزة من مرحلة البوصة إلى مرحلة العروسة فى 45 يوما فقط؟! بمزيد من التوضيح لماذا وافقت حماس على المبادرة المصرية واحتفل عناصرها بوقف إطلاق النار، مساء الثلاثاء، واعتبروا المبادرة انتصارا، بينما نفس القيادات والأنصار رفضت نفس المبادرة قبل 45 يوما من الآن ووصفوها بأنها مبادرة خنوع؟
«3»
الأيام والتواريخ قد تساعدك فى فهم ما تفعله حركة حماس من تحويل القضية الفلسطينية إلى عملية تجارية هدفها منح الحركة أكبر مكسب ممكن.
يوم الثلاثاء 15 يوليو الماضى أصدرت حركة حماس بيانا رسميا ترفض فيه المبادرة المصرية للتهدئة ووقف إطلاق النار ووصفتها بأنها مباردة ركوع وخنوع، وأنها لا تساوى ثمن الحبر الذى كتبت به.
بعد 5 أيام تخللها الكثير من التصريحات الهجومية ضد مصر، والإساءة للجيش المصرى ووصف مصر بأنها شريك فى الحرب على غزة، أصدرت حركة حماس بيانا آخر يوم الأحد 20 يوليو تعلن فيه رفضها لدعوة مصر بمشاركة وفد من حماس فى المفاوضات الخاصة بوقف إطلاق النار، وقال البيان نرفض هذه المبادرة المصرية الخانعة.
قبل 72 ساعة من دخول المبادرة المصرية حيز التنفيذ وتوقف إطلاق النار بين الجانبين الصهيونى والفلسطينى وفتح المعابر ورفع الحصار، كانت حركة حماس وإعلام الإخوان مستمر فى توجيه الشتائم واتهامات العمالة والخيانة للدولة المصرية ووصف مبادرته بأنها ذليلة ومرفوضة ومبادرة هزيمة وفى الجزيرة ومواقع حماس وفضائيات الإخوان تم توحيد خطاب يصف المبادرة المصرية بأنه مبادرة إسرائيلية هدفها القضاء على المقاومة ضد العدو، وأصبح العزف الإعلامى الإخوانى على وتيرة واحدة تصف الدور المصرى فى غزة بالمجرم، مبادرة مصر مرفوضة، الحل عند قطر وتركيا، مصر تشجع إسرائيل على حصار غزة واجتياحها بريا، وتوحدت تصريحات أعضاء المكتب السياسى لحركة حماس مع قيادات الإخوان الهاربة فى قطر وتركيا لتسير فى طريق واحد، ملخصه أن إسرائيل تتلاعب بمصر وتستهر بها، وأن المبادرة المصرية كتبت فى تل أبيب، ومصر لم تكن أبدا بمثل هذا الخنوع والتواطؤ حتى فى عهد مبارك، ومصر عدو يشارك فى العدوان على غزة.
«4»
حدث هذا على مدى 45 يوما بعد ساعات من بدء الضربة الإسرائيلية للقطاع، ثم فجأة خرج أهالى غزة إلى الشوارع يحتفلون بالانتصار على إسرائيل بعد إعلان الحركة وقف إطلاق النار وفق المبادرة المصرية، وتبدلت ملامح قيادات حماس، وتغيرت التصريحات وتحولت مصر فجأة من الخائنة شريكة إسرائيل إلى الشقيقة الكبرى التى تحمى غزة وفلسطين، واستبدل سامى أبوزهرى الناطق باسم حماس بتصريحاته عن مصر التى باعت فلسطين تصريحات تقول «دور مصر أساسى وتاريخى فى دعم القضية الفلسطينية، رحبنا منذ البداية بالدور المصرى فى التوصل إلى اتفاق التهدئة واتجهنا إلى القاهرة لتحقيق ذلك، ونعتبر أن هذه النهاية هى نهاية جيدة وتحافظ على دور مصر التاريخى فى دعم القضية الفلسطينية»، واستعدل موسى أبومرزوق نائب رئيس المكتب السياسى لحماس لسانه وانطلق يشكر فى مصر بعد أن ملأ الأرض بصراخ تخوينها وقال نصا: «الشكر للحكومة المصرية، لجهودها فى التوصل إلى وقف إطلاق النار فى غزة، ولم يكن هناك أى ضغط إقليمى على سلطة الاحتلال الإسرائيلى، سوى المبادرة المصرية، وأنه بدون دور مصر لما كانت الهدنة».
تلك صورة الخمسين يوما كاملة ضع أولها مع آخرها حتى يتضح لك المشهد وتتجلى أمامك الإجابة عن السؤال الأخطر من يتاجر بدم أهل فلسطين؟ من يضع مصالحه السياسية فى كفة أعلى من كفة أهالى غزة؟!
«5»
مقاومة حماس للكيان الصهيونى ستظل بطولة مكانها أعالى العين والرأس، ولكن للعقل أيضا مطالبه، وأول هذا المطالب أن يخرج قيادات حماس علينا وهم يحملون إجابة الأسئلة الخمسة التالية:
1 - كيف تحولت المبادرة المصرية من هدنة خنوع وذل إلى هدنة انتصار فى 45 يوما فقط؟
2- كيف تحولت مصر من شريك لإسرائيل فى قتل الفلسطينيين إلى راعى الهدنة؟
3 - أين اختفى التهليل الإخوانى الحمساوى بالدور التركى والتدخلات القطرية؟
4 - كيف نصدق قيادات الإخوان ومواقع الإخوان والجزيرة بعد كل التقارير الإعلامية التى وصفت مصر بأنها عدو مثلها مثل إسرائيل؟
5 - لماذا جعلت حماس من نفسها سلاحا فى يد جماعة أو دول لم تكن تريد من هذه المعركة سوى إثبات أن دور مصر الإقليمى انتهى؟
الإجابات على هذه الأسئلة حق أصيل لأى مصرى تريد منه حماس أن ينظر إليها بعين داعمة لحركة مقاومة، وأى عين عاقلة من حقها الحصول على تفسير لكل هذه التناقضات والأكاذيب لحركة ترفع شعارا دينيا، وتقول إنها تهدف لرفع راية الإسلام.