روى لى الإعلامى الأشهر حالياً أنه قال للمسؤول عن تشكيل الوزارة عقب 30 يونيو لماذا لا تُعيّنون فلاناً وزيراً لقطاع الأعمال (لم يأذن لى بذكر اسمه)؟، فرد المسؤول بتلقائيةٍ (لا.. إنه لا يُحبّ الخصخصة).. فقال له الإعلامى بتلقائيةٍ أيضاً (بمفهوم المخالفة فهذا يعنى أنكم تُحبونها).. لعلّ هذا ما يُفسر لماذا جاء كل وزراء المجموعة الاقتصادية، ليس فقط ممن يحبون الخصخصة ويتعبدون فى محرابها، ولكن أيضاً ممن يكرهون القطاع العام.. وأستعير هنا قول الصديق عبد الحكيم عبد الناصر (القطاع العام حالياً ليس له أبٌ شرعىٌ وإنما زوجُ أم).
ليس فى عنوان المقال أى خطأ.. فمازالت أمانة سياسات الحزب الوطنى المنحل والمشايعون لها تسيطر على مراكز اتخاذ القرار الاقتصادى فى مصر سيطرةً تامة (وعلى وجه الخصوص ملف القطاع العام).. ليس بالانحيازات فقط وإنما بالشخوص فى أحيانٍ كثيرة.. يساعدها عددٌ من البؤر الإعلامية والصحفية.. وذريّةٌ من نسلها الذين تم زرعهم فى مؤسسات الدولة.
أولاً: لكى لا ننسى:
1 – لم تكن أمانة سياسات الحزب الوطنى مجرد شكلٍ تنظيمى فى حزب السلطة يسقط بسقوطها، كتلك التى عايشناها فى تاريخ مصر الحديث.. وإنما كانت تجسيداً وتعبيراً حقيقياً عن فكر الرأسمالية المتوحشة أو الليبرالية الجديدة.. ذلك الفكر الذى تراجع فى بلاده وتوّحش فى بلادنا.
2 – فى يوليو 2004 خرجت أمانة السياسات من أماكن تجهيزها فى الخفاء، وقفزت على مواقع اتخاذ القرار الاقتصادى مباشرةً، وقام أمينها العام بتشكيل وزارةٍ برئاسة الدكتور أحمد نظيف، عَرَفَ من خلالها الشعبُ لأول مرةٍ أسماءً مثل رشيد محمد رشيد ومحمد منصور وأحمد المغربى وأنس الفقى ومحمود محيى الدين وغيرهم من نجومٍ للصف الأول.. وقام كلٌ منهم سريعاً بعملية زرعٍ لحوارييه من غِلمان الحزب الوطنى وجمعية جيل المستقبل فى مفاصل وزارته.. وتوازى مع تلك الهجمة هجماتٌ مماثلة على مجالس إدارة الصحف الحكومية والجامعات والإعلام الحكومى والبنوك وأصبح لدينا فى كل هذه المؤسسات صفٌ أول وصفٌ ثانٍ من هذه السلالة.. وأصبحت مؤسسات الدولة السابق ذكرُها جاهزةً لمبايعة الابن عند اللزوم.
3 – انحازت سياسات هذه الأمانة للأغنياء بفجاجة وأرهقت الفقراء بلا رحمة، وقَنَنّت تضارب المصالح لأعضائها، حتى زكم الفسادُ الأنوف، فكانت سبباً مباشراً لتراكم الغضب الشعبى، إلى أن قامت ثورة 25 يناير وأسقطت مبارك.. لكن المفاجأة أن قيادات هذه الأمانة بقيت فى أماكنها (باستثناء عددٍ قليلٍ من رموزها الهاربين أو المحبوسين) وظلّت توّجه السياسات الاقتصادية بنفس الأسلوب.. وهو ما يُفسر إحساس المواطنين بعدم حدوث تغيير إيجابى بعد الثورة.. المشكلة أن هؤلاء الوزراء كانوا قد أتَوا معهم بالعديد من الحواريين والعاملين فى (أو مع) شركاتهم الخاصة وأدخلوهم فى نسيج الدولة المصرية وثبتوهم فى وظائف الدولة وترقّواْ فيها، وأصبحنا أمام أمرٍ واقعٍ جديدٍ.. فمن أتى به وزيرُه وهو لم يزل فى المهد صبياً من عشر سنواتٍ أصبح الآن رئيس بنكٍ أو مؤسسةٍ أو وكيل وزارةٍ على الأقل.. وأصبحوا فى دائرة الترشيحات الجديدة لا سيما فى الوزارات الاقتصادية.. ولعلّ ذلك ما يُفسر الشعور العام بأن جينات أمانة السياسات لا زالت تسيطر على مؤسسات الدولة بعد ثورتين.
ثانياً: القطاع العام على مائدة اللئام:
1 – أما قطاع الأعمال العام فكان الكعكة الكبرى التى وضعت الأمانةُ يدَها عليها منذ عشر سنواتٍ ولم ترفعها عنها للآن.. فمنذ أن سحبه الدكتور محمود محيى الدين إلى وزارة الاستثمار، دخل القطاعُ إلى غرفة الإعدام ولا زال يرتدى البدلة الحمراء فى انتظار التنفيذ.. بدأ الرجل بإعلان نيّته بيع جميع الشركات فى ثمانية عشر شهراً (هكذا.. قرر سيادته مستنداً إلى قوة الوريث أن يبيع شركاتٍ ومصانع لم يفوضه أصحابها فى بيعها.. ولم تقم أمانة سياساته ببناء مصنعٍ واحدٍ منها وإنما أقامتها أجيالٌ سابقة).. وأطاح سيادته بأى قيادةٍ أرادت أن تناقش موضوع البيع مجرّد مناقشة.. وأعاد تشكيل مجالس الإدارة والجمعيات العمومية للشركات ممن يدينون له بالولاء التام.. وتم تعيين أشد أعداء القطاع العام من أطفال الرأسمالية المتوحشة مسؤولين عن إصلاح القطاع العام (!).. فتداعوا عليه كما تتداعى الأكَلة على قصعتها (أحد رؤساء الشركات القابضة كان محل إعجاب الوريث ووزرائه لأنه يردد دائماً أن شركاته لا أمل فى إصلاحها وأن إكرام الميت دفنه.. وبدلاً من أن يعينوا مكانه أحداً لينقذ المريض، أبقوا عليه ليقوم بدور التُربى.. إلى أن قامت الثورة).
2 – قامت فى مصر ثورةٌ وظل من باعوا الشركات فى مواقعهم.. وكان الناس يندهشون عندما يجدون الدولة (ممثلَةً فى رئيس الشركة) تستميت أمام القضاء حتى لا يحكم ببطلان وفساد عقد الخصخصة (لأن الحكم بفساد العقد يعنى الحكم بفساد من صاغوه ومن أبرموه).. عموماً فحتى الشركات التى حُكم بفساد عقودها لم يتم محاسبة أحدٍ ممن صاغوا وأبرموا هذه العقود.. بل ضغطت بقايا أمانة السياسات حتى صدر قانون تحصين العقود ليغلق أى احتمالٍ للمحاسبة عما مضى أو ما هو آت (!).
3 - لم يحدث تغييرٌ ذو بالٍ فى قيادات شركات قطاع الأعمال العام من أيام محمود محيى الدين للآن، فيما عدا تغييراتٍ محدودةٍ بفعل عوامل التعرية (طبعاً التعميم خطأ.. فأنا أعرف قيادات أمضت هذه السنوات فى مقاومةٍ مستترةٍ وظاهرة ونجحت فى الإبقاء على شركاتها صامدةً حتى الآن).. وزاد الطين بلّة أن الشركات تُركت لشأنها فتراتٍ طويلة منذ ثورة يناير، دون وزارةٍ أو دون وزيرٍ أو بوزراء شكليين.. وقد فشلتُ (وأنا وكيل أول وزارة فى وزارة الاستثمار) على مدى السنوات الثلاث الماضية أن أحصل على بيان بأسماء أعضاء مجالس الإدارة والجمعيات العمومية لشركات قطاع الأعمال لكشف تضارب المصالح وخلفية مواقف المدافعين عن الفساد.. مع أنه من المفترض أن يكون هذا البيان مُتاحاً للشعب والإعلام على المواقع الإلكترونية لهذه الشركات.
4 – لم يعد أحدٌ يجرؤ عقب ثورة يناير على ترديد كلمة (خصخصة) ولكن لم تَبدُ فى المقابل أى رغبةٍ للنهوض بهذا القطاع.. وكأن هناك توافقاً ضمنياً على تركه ليذبل وحده ويموت وتلاحظ أن وزارة قطاع الأعمال التى ألغاها محمود محيى الدين لم تعُد للوجود مرةً أخرى كوزارة مستقلة (باستثناء شهرين مع الدكتور على السلمى) مع أن أصوات الخبراء بُحّت وهم يقولون إن أول خطوةٍ للإصلاح هى إنشاء وزارةٍ مستقلة لهذا القطاع الهام.. وظل هذا القطاع جزءاً من وزارة.. وتعاقَب عليه 13 وزيراً ومفوضاً.. منهم الطيب والشرس والقبيح.. لكنهم كلهم باستثناءاتٍ نادرةٍ يُكنّون عداءً مقيتاً وكراهيةً شديدةً للقطاع العام... واستمر خبراء أمانة السياسات فى مناصبهم فأوصلوا القطاع إلى ما وصل إليه.. بعضهم غادر القطاع بعد أن امتص ضرعه لآخر قطرة حليبٍ وانتقل لمكانٍ آخر أحلى.. والأقل كفاءةً من هذه الشلة ما زالوا منتشرين فى القطاع وقد أصبحوا أمراً واقعاً يُسهمون فى خرابه (المُضحك المُبكى أن صحفيى أمانة السياسات يتباكون الآن على حال القطاع الذى خرّبوه ولا زالوا يمتصون دمه).
ثالثاً: أهؤلاء هم جنودك؟:
لا زلتُ أصدّق فطرة عبد الفتاح السيسى التى عبّر عنها فى فترة الدعاية الانتخابية (أهلاً بالقطاع الخاص يبنى مصانع جديدة، ولكن عندنا قطاعٌ عامٌ موجودٌ فعلاً فلماذا لا نُقويه ونحل مشاكله ونستخدمه ضمن أدوات الدولة لضبط الأسعار وكبْح جماح المحتكرين؟).. لكن على أرض الواقع فإن أمانة السياسات ما زالت تدير الشأن الاقتصادى وعلى وجه الخصوص القطاع العام.. وهم الآن يلتفون على ما أعلنه الرجل، فيبقون شركات قطاع الأعمال كمّاً مُهملاً.. وبدلاً من أن تكون الدولة مسؤولةً عنه تدعمه عند الضرورة والاحتياج، يتحدثون عن صندوقٍ سيادىٍ يديره أحدهم من رجال البنوك.. الشلّة لا زالت تقرر مصير القطاع العام فى غيبةٍ تامةٍ من أصحابه ودون تفويضٍ منهم.
من قبل أن يقولها السيسى، نعرف أن مصر فى حالة حربٍ لإعادة بناء الوطن.. والحرب يخوضها المقاتلون لا السماسرة.. فهل يظن عاقلٌ أن الطابور الخامس من أمانة السياسات يصلح لهذه المهمة؟.. هذا عبثٌ.. واستمراره جريمة.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
أحمد دسوق
محلك سر