صف لنا الفيل، ما إن سمع ذلك الضرير تلك الجملة حتى مد يده يتحسس ذلك الفيل الضخم القابع إلى جواره فكان أول ما لمسته يده ذيل الفيل فقال بثقة الفيل مخلوق أفعوانى رفيع يشبه الحبل المرن.. مد الأعمى الآخر يده ليصفه هو الآخر فارتطمت يده بقدم الفيل فهب مخالفا للضرير الأول وقال: لا بل الفيل مخلوق أسطوانى راسخ كالعمود الصلب ذو جلد سميك مشعر وهو ده الفيل وليس ما تزعم. صاح كفيف ثالث معترضا بينما يمسك بخرطوم الفيل وقال بدهشة ماذا تقولان؟! الفيل «الفيل كائن أنبوبى مجوف وبه تجاعيد عميقة وهو ده الفيل وليس ما تقولان. «كلا بل هو مخلوق عاجى مصمت ذو ملمس أملس ناعم وطرف مدبب حاد وهو ده الفيل وليس ما تفترون».
هكذا صاح رابعهم وهو يتشبث بناب الفيل العاجى، تطور الأمر إلى احتداد ومراء وربما وصل للشجار والكل مصر على وصفه للفيل وتناسوا جميعا تلك الحقيقة البسيطة، حقيقة أن الفيل ليس شيئا من هذا وأنه فى الوقت نفسه كل هذا.
ليس عيبا أن تعجز الحواس أحيانا عن إدراك الحقيقة كاملة وربما يكون لهؤلاء العميان فى ذلك المثال الصينى الشهير عذرهم، فذلك هو ما بلغته حواسهم وأدركته غرائزهم القاصرة نظرا لأنهم عميان لم يستطيعوا النظر لذلك المخلوق لكن تعيبهم تلك الثقة الزائدة، وذلك التسرع الحاسم الذى تميز به وصفهم للفيل، وليس ذنب الفيل أن الأبصار كليلة وأن النظر مفقود لكن الذنب ذنب من تناسى تلك الحقيقة وتعامل كأنه يدرك كل شىء ويحيط علما بكل شىء وأنه قد وصل إلى عمق الحقيقة لمجرد أنه أمسك بجزء منها فاختزل كل ما تبقى فى ذلك الجزء الذى أمسك به وتلك هى مشكلتنا الأزلية الاختزال المتسرع.
وكما سارع العميان جازمين بوصف الفيل وقائلين بكل ثقة: «هو ده الفيل» يسارع البعض أيضا قائلين بحسم مبهر هى دى مصر.. قد وقع النظر الس وداوى على متحرش حقير.. هيا بسرعة قلها: هى دى مصر.. آخر وقعت عيناه على فساد أو ظلم فلتخرج الكلمة المعتادة هى دى مصر.. واسطة، محسوبية، رشوة، إهمال، جهل، فقر وهى دى مصر وعلى النقيض ها هى عين المتفائل تقع على عطاء وبذل وخير مرسل... الله أكبر هى دى مصر طبعا، دفء ومودة وتكافل أيوة طبعا هى دى مصر، جدعنة ورجولة وثورة ومطالبة بالحق... هو ده الكلام وهى دى مصر.. وهكذا على حسب النظارة التى ترتديها والجزء الذى قررت أن تمسك به من جسد الفيل.. عذرا أقصد من جسد مصر ستصفها.. سيراها البعض واحة دافئة تمتلئ بالأصالة وسيراها آخرون مستنقع ظلم وفساد وتحرش وانحلال وجهل وسيسأل كالعادة كيف نبت فى واديها الطيب كل هذا القدر من الأوغاد، وسيرى البعض الشعب المتدين بطبعه ويتغاضى عن شواهد كثيرة قد تقدح فى تلك الطبيعة المزعومة وسيصر آخرون على أنها أم الدنيا دون أن يسأل نفسه لماذا وكيف صارت للدنيا أم ومتى قررت الدنيا أن تترك أمها فى ذيل الأمم؟.. كل هذا ليس مهما المهم أن يراها كما يريد أو كما قرر أن يراها بما يوافق طبيعته النفسية ومزاجه التقييمى.
المشكلة أنه ليس أعمى ولا ضعيف البصر، لكنه لا يحب أن يراها إلا هكذا والمشكلة الأخطر أنه يصر على أنها هكذا ولابد أن يراها الجميع هكذا فقط لأنه قرر أن هذه هى مصر كما قرر كل أعمى أن هذا هو الفيل.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة