يبدو أننا فى حاجة إلى أن نتذكر وبخاصة هذه الأيام أن الشرارة الرئيسية التى أدت إلى قيام ثورة يناير هى الانتهاكات غير الآدمية للشرطة المصرية تجاه المواطنين، وقد كانت حادثة مقتل الشهيد خالد سعيد إثر التعذيب الفادح هى المحرك الأساسى لفعاليات ما قبل الثورة المصرية التى وصلت إلى مرحلة الغليان فى أول أيام الثورة.
أتذكر معكم هذا الآن نظرا لتصاعد مثل هذه الانتهاكات بصورة قاسية هذه الأيام، وكأن ثورة لم تقم ضد هذا، وكأن الكرامة الإنسانية لم تكن أحد الشعارات الرئيسية للثورة المصرية التى طالما طالبنا بها، وكأن الدستور الجديد لم يجرم ويمنع مثل هذه الانتهاكات ويضع أشد وأغلظ العقوبات ضد مرتكبى هذه الانتهاكات!
فقد رصدت الصحف الإخبارية فى مدة لا تتجاوز الشهر مثل هذه الانتهاكات والتجاوزات، والتى سأسرد فقط عناوين بعضها: «حبس ضابط بشركة السياحة بالغردقة 4 أيام لاتهامه باختطاف سائحة واغتصابها»، «النيابة تتحفظ على 3 أمناء شرطة لـ«التمثيل بجثة مواطن» بالخانكة»، «السجن 15 عاما لأمين شرطة فى قتل مواطن داخل قسم إمبابة»، «الآلاف يشيعون جنازة سائق توك توك لقى مصرعه برصاص أمين شرطة بالبحيرة»، «الأطباء تطالب الداخلية بمعاقبة ضابط اعتدى على طبيب بمستشفى أحمد ماهر»، «تظاهر عشرات المحامين أمام النيابة احتجاجا على ضرب ضابط لزميلهم»، «حبس أمين شرطة بتهمة هتك عرض فتاة معاقة فى قسم إمبابة».
هذه بعض الأمثلة التى تمكنت الصحف من رصدها فى مدة أقل من شهر، هنا تعمدت ألا أنوه إلى انتهاكات السرقة أو الرشوة أو الفساد، فقد سردت فقط الانتهاكات المتعلقة بالإنسان بروحه وبجسده وبكرامته باعتباره «بنى آدم» ومواطنا لا جرم ارتكبه.
وبرغم أن هناك جانبا إيجابيا فى هذا الصدد ويتمثل فى العقاب فى أغلبية الجرائم، والتعامل مع الحالات كأنها حالة فردية، والتصدى للجانى كفرد. فإننى هنا لا أعمم، فأعلم جيدا أن هناك فئة من الضباط الذين يعدون مثالا وقدوة لما نريد أن يكون عليه رجل الأمن المصرى نقابلهم فى مواقف عديدة فى حياتنا اليومية، بالإضافة إلى أننى لا أستطيع أن أنكر الجهود العظيمة التى بذلوها لنقل الباعة الجائلين من وسط البلد، ومحاولة استعادة النظام الحضارى لمنطقة تعد من أجمل المناطق القديمة المصرية، برغم كل أخطاء الماضى تجاه استغلال مثل هؤلاء البائعين لأسباب متعددة، لا أريد الخوض فيها الآن.
ولكن كل هذا لا يجعلنا نغفل أن تزايد نسبة الجريمة إلى هذا الحد، ونوعية الجرائم التى هى بين قتل وخطف واغتصاب وتمثيل بجثث، لابد أن تجعلنا نتوقف عندها ولا نحاول أبدا فى ظل هذا الرقم من الجرائم فى هذه المدة أن نعتبرها حالات فردية، فالواضح أن هناك خللا كاملا فى المنظومة الأمنية، فتحول رجل الأمن إلى مجرم فى كل هذه الحوادث مؤشر كارثى. فقد أصدرت الداخلية بيانا السبت الماضى عقب جولة لوزير الداخلية بمحافظة كفر الشيخ يحتوى على أن «الوزير أكد أن الوزارة لا تتستر على أى تجاوز صادر من أى ضابط أو فرد، وأنه لن يضير الوزارة الاعتراف بخطأ صادر من أحد رجالها، بقدر ما يضيرها ضياع حق مواطن ناتج عن تقصير أو تجاوز».
وهنا أقول للوزير إن حجم التجاوز ونوعه لابد ألا يجعلك تتوقف فقط عند عقاب الضابط، فنحن لا نريد أن يتكرر التجاوز من خلال منظومة كاملة لإصلاح مؤسسى حقيقى، العقاب الفردى شىء محمود جدا ولكن لا يكفى يا سيادة الوزير، فلا نريد تكرار الجرائم، ولا نريد وجود مثل هذا النوع من الجرائم البشعة المنزوعة من أبسط قواعد الإنسانية، فعندما يغتصب الضابط، ويخطف الضابط، ويمثل الضابط بجثة فلان لابد أن تشعر أن هناك خطأ فادحا وأخلاقيا ولابد أن تتضافر كل الجهود من أجل التصدى له وعدم تكراره بهذه الفجاعة المفرطة.
فهل نتجاهل كل هذه الوقائع الآن بحجة المقولة الشهيرة بأننا نحارب الإرهاب، وهؤلاء الضباط والجنود هم من يقومون بمواجهة الإرهاب! فأنا أعلم ذلك جيدا ولمصلحتهم هم قبل مصلحة المواطن أن تتم إعادة هيكلة كاملة للداخلية، وإعادة توعية بمعنى رجل الأمن، ومعنى الأمن، وكيف يحافظ عليه ضابط أو أمين شرطة، وأنه لا يمثل فقط نفسه بل يمثل جهاز الأمن بأكمله، وهو جزء من منظومة كاملة. فلا أظن أن تحقيق المعادلة والتوازن بين مكافحة الإرهاب والحفاظ على كرامة المواطن المصرى بالشىء الصعب والمستحيل تحقيقه، فنخشى على الضابط من قتله بيد إرهابيين خونة، ونخشى على المواطن من قتله بيد ضابط تجرد من معانى وقيم الإنسانية، فلو استمررنا فى تجاهل الانحراف المؤسسى الموجود فى منظومة الداخلية سيكون العجز على الصعيدين: صعيد مواجهة الإرهاب، وصعيد استتباب الأمن دون التعدى على المواطنين.
اللهم بلغت اللهم فاشهد