تعتبر دراسة الإعلان مجالا مشتركا للعديد من التخصصات العلمية، والتى اهتمت كل منها بدراسته من زاوية تخصصها الضيق، من هنا غابت الرؤية الشمولية فى دراسة ظاهرة ثرية ومركبة وبالغة التعقيد كالإعلان لأنه ظاهرة اقتصادية واجتماعية وإعلامية وسياسية تؤثر فى سلوك وقيم الجمهور وفى حرية الصحافة والإعلام.
الإعلانات أشكال وألوان، بعضها سياسى أو اقتصادى، وبعضها سرى، وكل طرف يعلن عن نفسه أو شركته قد يمارس ضغوطا على الوسيلة الإعلامية دفاعا عن مصالحه، والمشكلة أننا فى مصر نفتقر للضوابط المهنية ومواثيق الشرف التى تنظم الإعلانات ومساحتها أو وقتها، والأهم شفافية مصادرها المالية، يعنى من يدفع؟ وكم يدفع؟ وهل قيمة الإعلان مساوية لأهمية الوسيلة الإعلامية أم أن هناك قدرا من التهوين أو التهويل، وأنا مهتم بهذه القضايا، والغريب أن اهتمامى يذهب للماضى أيضا، بمعنى هل كانت الصحافة زمان فى القرن التاسع عشر خاضعة لنفوذ الإعلانات؟ وكيف أثرت ثورتا 1919 و 1952 على نفوذ وشكل الإعلان؟ ثم ما هى الآثار الاجتماعية والثقافية لظهور وانتشار الإعلان التليفزيونى فى الستينيات؟
أتذكر وأبناء جيلى إعلانات الرسوم المتحركة عن السلع والخدمات التى كانت تقدمها شركات القطاع العام وكذلك إعلانات «ست سنية» عن ترشيد المياه، وغيرها من إعلانات المسؤولية الاجتماعية التى كادت أن تختفى من حياتنا منذ انفتاح السداح مداح فى 1974، لتحتل الشاشات راقصات شقراوات يرقصن على واحدة ونصف لترويج سلع وخدمات أغلبها ترفيهى واستهلاكى ولا معنى له. القصد أن خطاب الإعلان وتحولاته موضوع لا يهتم بدراسته باحثو الإعلام أو الاجتماع بالرغم من أهميته.
أتمنى أن يهتم عدد من باحثى الماجستير والدكتوراه بهذه الموضوعات ويختاروها موضوعات لرسائلهم العلمية بدلا من الانبهار الشكلى بدراسة وسائل التواصل الاجتماعى والإعلام الجديد، والتى تجذب اهتمام كثير من الباحثين لدرجة الوقوع فى فخ تكرار الأفكار والموضوعات بدون قدرة على التأصيل. أتمنى أن يدرس الباحثين الشباب الإعلان الصحفى والتلفزيونى وإعلانات الإنترنت من منظور جديد وبمناهج حديثة لا تهتم برصد شكل الإعلانات ومساحتها، وإنما تركز على خطاب الإعلان نفسه والمعانى والصور التى اعتمد عليها، وعلاقته بتحولات الاقتصاد والمجتمع، لأن هذا الخطاب يعكس إلى حد كبير تغييرات المجتمع والناس وثقافتهم فى مصر خلال 186 سنة هى عمر الصحافة. ولنأخذ مثلا تحولات الإعلان شكلا وخطابا بعد ثورة يوليو 1952 وما رافقها من تحولات اجتماعية، بدأت بإصدار قانون الإصلاح الزراعى ثم التمصير فالتأميم، إذ تراجع حضور وتأثير الإعلانات الأجنبية وإعلانات القطاع الخاص، خاصة بعد صدور قرارات التأميم وسيطرة الدولة على الاقتصاد وبناء قطاع عام كبير.
لكن مع سياسة الانفتاح الاقتصادى 1974 حدثت قطيعة فى تطور بنية خطاب الإعلان بكل وسائله من صحافة وإذاعة وتلفزيون، ودخل طورا جديدا شهد فيه تحولات كبيرة على مستوى الشكل واللغة والمضامين والقيم والرموز علاوة على التمويل، فتراجعت إعلانات الحكومة لصالح إعلانات القطاع الخاص وإعلانات الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات والتى عادت بقوة للسوق المصرى، وفى عصر مبارك اعتمدت الإعلانات بصورة كبيرة على أيقونات، ومفردات أجنبية، ولهجات عامية مشوهة، تروج للحلم الرأسمالى الاستهلاكى المفعم بالسعادة الزائفة والفرح اللحظى المنفلت من أعباء الثقافة الوطنية والموروث الشعبى، مقابل بؤس الواقع ومرارة التهميش الاجتماعى لغالبية المواطنين، التى أدت لثورة 25 يناير.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة