أكدنا فى المقالات السابقة الطبيعة الخاصة أو المرحلية والمؤقتة التى تتسم بها معظم الأحاديث النبوية، والتى جاءت فى مجملها تراعى خصوصيات المخاطبين بها من الصحابة، ومختلف ظروفهم وأحوالهم، والطبيعة العامة والممتدة التى تتسم بها الآيات القرآنية، وسوف نعرض فى هذا المقال أمثلة من الأحاديث النبوية لإظهار هذه الطبيعة، وذلك على النحو التالى:
الأحاديث التى يستخدمها البعض كدليل على تحريم اقتناء أو عمل أى تماثيل أو صور لذوات الأرواح، والوعيد لمن يفعل ذلك، والأمر بطمس ملامح الصور والتماثيل، كالحديث القدسى الذى رواه البخارى: «قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقى فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة»، وكذلك الحديث الذى رواه البخارى ومسلم عن رسول الله أنه قال: «إن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المصورون»، وكذلك قول النبى صلى الله عليه وسلم: «من صور صورة فى الدنيا كُلّف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ»، وكذلك ما رواه مسلم عن الرسول: «ألا أبعثك على ما بعثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته».
نقول إن جميع هذه الأحاديث خاصة بزمن الصحابة وبداية بعثة النبى، وما ورد فيها من أحكام مؤقت وله علّة وسبب متى انتفى توقف العمل بها، فهى لا تمتد إلى كل زمان ومكان، فالصحابة الكرام كانوا خارجين لتوهم من عبادة الأوثان والأصنام، فكانت الحكمة بالنسبة لهم تقتضى قطع الطريق أمام أى مداخل يمكن أن تتسلل منها الوثنية، والعودة إلى تعظيم وعبادة التماثيل، فالهدف من هذه الأحاديث وقت ورودها عن رسول الله هو تطهير الصحابة الكرام من الوثنية، ومتى تحقق ذلك توقف العمل بها طبقًا لقاعدة: «الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا»، وعلى الرغم من ذلك فإن الجماعات المتطرفة، وبعض المدّعين من الدعاة يستخدمون هذه الأحاديث إلى الآن كدليل لتحريم جميع أشكال وصور الإبداع المرتبطة بالتصوير والنحت، بل يستخدمونها مبررًا لما يمارسونه من تدمير متعمد للتراث والحضارة الإنسانية، كما فعلت «طالبان» فى أفغانستان عندما قاموا بتدمير تمثال بوذا، وكما يفعل الآن تنظيم «داعش» فى العراق وسوريا من تدمير للمساجد والكنائس وأضرحة بعض الأنبياء والصالحين، ولعلكم تتذكرون الفتاوى المشبوهة التى صدرت وقت حكم الخائن مرسى، والتى كانت تطالب بطمس ملامح التماثيل الفرعونية، ودعاوى هدم الأهرامات والمعابد الأثرية.
مثال آخر، حديث رواه البخارى عن عكرمة، ويستند إليه البعض فيما يسمى بـ«حد الردة»، وهو قول النبى صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه».
نقول: إن فهم هذا الحديث يقتضى منا الإحاطة بالظروف التى ورد فيها، حيث يرشدنا التاريخ إلى أن هذا الحديث صدر فى مواجهة فتنة يهودية خبيثة كانت تستهدف هدم المجتمع المسلم من الداخل، وحيث كان الانتساب إلى اليهودية يقف حائلاً أمام نفاذ شبهات اليهود ومكائدهم، فرأوا أن أفضل الطرق للوصول إلى عقول المسلمين وقلوبهم يتمثل فى إعلان الإسلام إلى حين بث كل الدسائس والشبهات، ثم العودة إلى اليهودية بعد ذلك، وقد أشار القرآن إلى ذلك فى قوله تعالى من سورة «آل عمران» آية 72: «وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِى أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»، وهذا السلوك لا علاقة له بحرية الاعتقاد التى كفلها الإسلام وحماها، كما سوف نوضح بعد قليل، إنما هو مؤامرة فى ثوب حرية الاعتقاد، وما أكثر المؤامرات التى تحاك لنا فى ثوب حماية الحريات، المهم أن النبى واجه هذه المؤامرة اليهودية بهذا الحديث، وجميع ما كان يسمى بحركات الردة التى واجهها الصحابة بعد وفاة الرسول كانت تستخدم حرية الاعتقاد كمجرد ستار لسعيها لهدم الدولة، والتآمر عليها، فمواقف هؤلاء وإن توزعت بين ادعاء النبوة، والامتناع عن دفع الزكاة، فإن ذلك لم يكن سوى مجرد شعار يخفى الحقيقة، وهى البغى والتمرد على الدولة، والسعى إلى تقسيمها، وهو ما يسمى فى زماننا بالخيانة الوطنية، أو الخيانة العظمى، فهذا الحديث لا يستخدم إلا لمواجهة مثل هذه المؤامرات التى تستهدف الدولة الوطنية، وتسعى لتدميرها، مستترة خلف حرية الاعتقاد، فلا يوجد فى الإسلام ما يسمى بحد الردة كعقوبة لمجرد تغيير الدين.
ولذلك نجد آيات القرآن، وهو صاحب الطبيعة العامة والممتدة إلى كل زمان ومكان، قد نصّت بصورة واضحة لا تدع مجالًا للشك أو الريبة على حرية الاعتقاد، وكونها من الحريات التى يشرعها الإسلام ويحميها، بل يعاقب المعتدى عليها، ومن هذه الآيات قوله تعالى فى سورة «البقرة» آية 256: «لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ».
وقوله سبحانه فى سورة «يونس» آية 99: «وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ».
وكذا قوله من سورة «الزمر» آية 14، 15: «قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِى، فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ».
وقوله جل جلاله فى سورة «الكهف» آية 29: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ».
وقوله سبحانه فى سورة «الإسراء» آية 107: «قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا»
فهذه الآيات القرآنية تؤكد أن حرية الاعتقاد مكفولة فى الإسلام، وهذا هو الحكم العام والممتد إلى زمان ومكان، أما الحديث المذكور أعلاه فهو يعبر عن حكم خاص فى ظروف خاصة متى تغيرت توقف العمل به، ويعود متى عادت هذه الظروف والملابسات.
هذه بعض أمثلة توضح خصوصية ومرحلية الأحاديث النبوية، وتؤكد أنه يجب معرفة الظروف التى وردت فيها هذه الأحاديث حتى نحسن فهمها، ونستطيع التعامل معها، ونزيل ما قد يبدو من تعارض موهوم بينها وبين القرآن، فالأمر لا يتطلب رفض السُنة النبوية كما يدعى البعض، إنما فقط معرفة أصول وقواعد التعامل معها.
هذا وبعد أن بيّنا طبيعة الأحاديث النبوية، من حيث الخصوصية والمرحلية والفرق بينها وبين القرآن الكريم سوف أعرض على سيادتكم إن شاء الله فى المقال القادم بعض القواعد والآليات المتبعة عند العلماء فى قبول ورد الأحاديث.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود حاتم
أبحث عن الحق
عدد الردود 0
بواسطة:
عيد الخطيب
ظروف خاصة