لن أمل من الحديث عن أن أزمة الأخلاق التى يعانى منها المصريون الآن تعود فى معظمها إلى شدة الزحام، وليس الفقر أو التفاوت الطبقى الصارخ إلا عوامل مساعدة فى تأجيج هذه الأزمة، فالمصريون منذ قرون بعيدة لا يعرفون نعمة الثراء، والغالبية العظمى منهم أصدقاء حميمون للفقر، ومع ذلك لم تتدهور أخلاقنا إلى هذا المستوى المؤسف إلا فى العقود الأخيرة فقط.
لماذا؟
لأن الزحام يسلب من المرء إنسانيته، ويعود به إلى أزمنة سحيقة حين كانت البشرية ما تزال تكافح للخروج من المشاعر الوحشية العنيفة إلى فضاء التعاملات الإنسانية الرحبة، وكما يقول المؤرخ وعالم الآثار الأمريكى «بريستد» إن الإنسان عرف الطريق إلى صناعة الأسلحة منذ مليون سنة تقريبا، لكنه لم يدرك السبيل إلى ابتكار منظومة أخلاقية راقية إلا قبل سبعة آلاف عام فقط.
إن أول شروط تحقيق هذه المنظومة هو أن يتمتع كل فرد بمساحة معقولة من الفراغ حوله، وإلا فقد المرء مشاعره إذا وجد نفسه مكدسا مع غيره فى مساحات ضيقة ومخنوقة، فالفلاح المصرى القديم كان بالكاد يتحصل على قوت يومه، ومع ذلك اتكأ على منظومة راقية من الأخلاق الحميدة لأنه لم يعرف الزحام، فالأرض شاسعة أمامه، والفضاء بلا حدود.
ليس عندى لحظة شك واحدة فى أن نجاح الحكومة يتوقف فى المقام الأول فى قدرتها على تخفيض معدل الزحام إلى النصف على الأقل فى القاهرة والإسكندرية، فهما أكثر مدينيتين يتراكم فيهما البشر فوق بعضهم، وتشاركهم السيارات والباصات والميكروباصات و«التوك توك» فى نهب كل سنتيمتر من الفراغ.. إنه مهرجان بائس من الزحام اليومى اللعين، فكيف تطلب من الناس أن يتحلوا بالسلوك الطيب فى هذا المناخ الفوضوى؟ وكيف نتحسر على الأخلاق الضائعة فى زمن عسير لا يستطيع فيه المرء أن يحصل على حقه المشروع من الفراغ؟
لو كان الإمام على بن أبى طالب، رضى الله عنه، يعيش بيننا الآن لغير مقولته الأثيرة التى منطوقها «لو كان الفقر رجلا لقتلته» إلى «لو كان الزحام رجلا لقتلته»، فليت حكامنا يبتكرون أسلحة جديدة لقتل الزحام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة