من أراد أن يفهم فكر الدكتور سليم العوا فعليه أن يعرف أولا نشأته وأساتذته الأول الذين تربى وتعلم على أيديهم، والمدخلات الفكرية التى تزاحمت وتلاحمت فى عقل وقلب الرجل ليصير من أهم المفكرين الإسلاميين وأبدع الدستوريين الذين جمعوا ثقافات متعددة وصهروها فى بوتقة الفكر الإسلامى الصحيح، الذى لا يعرف الغلو ولا التطرف ولا الإفراط ولا التفريط.. وليكون ممن جمعوا بين هذه الثقافات المتعددة مع الفقه الشرعى الإسلامى جمعا صحيحا.
ود. سليم العوا اسمه الأصلى محمد عبدالله سليم العوا.. و«محمد عبدالله» اسم مركب.. أما العوا فهو اسم العائلة.. وعندما سألته منذ سنوات عن سر هذا الاسم المركب قال:
كانت أمى تحب أن تسمينى قبل ولادتى باسم النبى محمد «صلى الله عليه وسلم» وكان أبى يحب أن يسمينى عبدالله.. وكان أبى حكيما ودودا فقال لها سنسميه حسب رغبتنا جميعا دون إقصاء لرأى أحد.
وعندما كنت وكيلا لنيابة الأحوال الشخصية وكانت مختصة وقتها بتغيير الأسماء أردت أن أغير اسمى ليكون واحدا لا مركبا.. ولكن أبى قال لى: لا تغير اسمك لأن لكل إنسان حظا من اسمه كما قال ابن تيمية.. فتعلمت من ذلك أن اختيار الله لعبده أعظم من اختياره لنفسه.. فكنت كلما أخطأت قلت لنفسى: هل هذا يليق ممن تسمى باسم النبى محمد؟! وهل هذا يليق منى وأنا عبدالله؟! كيف أكون عبدا لله وأنا أعصيه وأخالفه أو أغضب لغير الله.. وهكذا استفدت من كلا الاسمين ورضيت ما رضيه الله لى.. وما رضيه لى والدى.
وعندما سألته عن والده رحمه الله قال: والدى كان حنفى المذهب، ثم بعد ذلك أصبح سلفيا يهتم بالدليل الشرعى لأى حكم ويبحث عنه.. وكان السبب فى تحوله من مذهب أبى حنيفة وتبحره فى فقه ابن تيمية شيخا أزهريا كان يعمل مديرا للوعظ والإرشاد اسمه الشيخ على رفاعى.. وهو الذى حببه فى دراسة علم وفكر وفقه ابن تيمية جامعا بين مدرسته السلفية البحتة ومدرسة أبى حنيفة التى تميل إلى الرأى وتهتم بالقياس.
وفى هذا الجو العلمى المملوء بالتعددية الفقهية نشأ د. سليم العوا، وكما يقول هو عن بيته: «فنشأنا فى بيت يحترم المذاهب ولكنه لا يقلدها تقليدا أعمى.. ويعرف الدليل ولكنه لا يتجرأ عليه تجرؤ الجهال لأنه يرى فى الدليل عدة أوجه».
وكان والد د. سليم العوا متبحرا فى علوم كثيرة غير الفقه والشريعة.. فقد كان يجيد الإنجليزية والفرنسية والإيطالية إجادة تامة.. وكان يقول لابنه دائما: «يا محمد.. العلم الرخيص لا يمكث طويلا فى العقل».. ولذلك كان يجيب أبناءه فى أى مسألة بإجابة مشهورة: «انظر فى كتاب الفقه على المذاهب الأربعة.. ويأمره أن يذهب لسماع دروس الفقه والأصول والرقائق فى المساجد».
وكان د. العوا يحفظ ما يسمعه ثم يعيده على ابنه فيقول له: وما دليل الشيخ على هذا الرأى؟ فيقول: لا أدرى.. فيقول له: لماذا لم تسأل شيخك.. اذهب إليه فى الدرس القادم واسأله عن الدليل.. فيقول له الشيخ: «هو سليم أفندى موش هيبطل يسأل الرأى ده جه منين».. تعالى يا بنى واقعد ويبين للعوا الصغير الدليل على قوله من القرآن أو السنة أو القياس.
ثم مرت الأيام وأصبح د. العوا وكيلا لنيابة الأحوال الشخصية التى تختبر المرشحين للمأذونية وجاء شيخه الذى كان يدرس الفقه على يديه منصور النمر فخجل أن يمتحنه وقال لزملائه: هذا شيخى الذى علمنى الفقه فكيف أمتحنه فقالوا: «شيخك أنت وأنت شيخنا فى النيابة».. لابد أن ينجح ونجح دون امتحان.
وهكذا نشأ د. سليم العوا فى مدرسة فقهية شرعية تهتم بالدين وتنظر فى الدليل وتستفيض فى مناقشة الفقه وأصوله.. فنشأ محبا للعلم ومنصفا للعلماء فى غير غرور ولا رؤية نفس ولا تطاول على مقام الفقهاء.. فقد كان والده يكرر دوما أمامه: يا بنى أعظم كلمة قيلت فى اختلاف الآراء فى الفقه هى كلمة الشافعى «رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب».. وهذا من أدب الشافعى وبيان أن ما يقوله هو رأى غير معصوم.
وعندما سألته منذ سنوات: وهل تعلمت الفقه والتعددية الفقهية فقط من والدك.. أم تعلمت أشياء أخرى معها؟!
قال: تعلمت من أبى فقه الدين وفقه الحياة معا، لأن أبى كان كبير العائلة.. وكان يتعامل مع المشاكل بحكمة وحلم مع قوة وكان يحسن حلها.. وقد اكتسبت منه تلك الخبرة لقربى الشديد منه.. وكان بيتنا يتسع للجميع، فكانت جدتى لأمى تقيم معنا وكذلك أعمامى وأخوالى عند حضورهم من السفر.. وقد تعلمت فى مثل هذه الظروف أن طعام الواحد يكفى الاثنين، وطعام الاثنين يكفى الجماعة.. وقد رأيت ذلك عمليا فى حياتنا.. وأنا فى العموم مدين لأبى بدين لا أستطيع قضاءه إلى يوم القيامة.
وبهذا يتضح لنا أن التعددية الفقهية التى تميز بها د. سليم العوا بل المرونة الفقهية والعقلية والسياسية التى فاق بها أكثر الإسلاميين لم تأت من فراغ.. إذ إنه من أوائل من قال بأن الفقه الإسلامى لا يبيح التعددية الفقهية فقط، بل يبيح التعددية السياسية أيضا.. وذلك قبل الإخوان وقبل الأزهر الرسمى وقبل الجميع.. فالتعددية لا تنبت من فراغ، ولكنها تنشأ مع الإنسان منذ نعومة أظفاره فى بيته ومدرسته وشيوخه وتلاميذه.
وعندما سألت د. العوا عن دور والدته فى تربيته قال: أمى كانت من أعظم الأمهات، وقد قال لى أبى يوما: لولا أمك لم يكن لمثل هذا البيت أن يقف على قدميه.. قلت له: أعرف ذلك.. فكيف يكون بيتك مستورا وأنت موظف بسيط تأكل من الحلال.. ودخلك محدود ولست مرتشيا وعندك خمسة أولاد وضعفهم من الضيوف والأقارب.. فقال لى: عند ذلك ستعرف يعنى إيه ربة البيت الصالحة».. وقد ظلت أمى تعمل فى البيت حتى وصل سنها 84 عاما، وكنت فى بداية زواجى أعيش معها.
لقد حكى لى د. العوا منذ سنوات عن أمه قائلا: لقد كنا خمسة.. ثلاثة ذكور وبنتين.. وكان معنا فى البيت دائما ما لا يقل عن ثلاثة من الأقارب وأحيانا عشرة.. ولما كبرنا وأصبح لنا أصدقاء كان فى البيت عادة قرابة 15 شابا من أصدقائى وأصدقاء أشقائى كل يوم.. هؤلاء فى غرفة وأولئك فى غرفة أخرى..
وهؤلاء يدخل لهم الطعام والآخرون يدخل لهم الشاى واللبن.. وثالثة يدخل لهم الفاكهة.. وكانت أمى رحمها الله تشرف على كل هؤلاء وتستيقظ مع الفجر لتنام ساعة ثم تستيقظ بعدها لتعمل حتى الواحدة من صباح اليوم التالى.. والذى يذاكر تذاكر معه.. والذى يقرأ قصة أو شعرا قد تقرأه له.. والبنت التى تطبخ أو تكنس تعلمها.. ورغم ذلك فهى رحيمة بنا وحليمة فى معاملتها لنا.
ولو أننا تأملنا كل نماذج العلماء النابهين فى كل العلوم لوجدنا أنهم نشأوا نشأة سوية بين أبوين عاقلين حكيمين متحابين، وفى أسرة ودودة يظللها الحب وتسودها الرحمة «وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً».
ولك أن تتأمل رجلاً مثل والد د. سليم الذى لم يهن زوجته يوماً فضلاً عن ضربها أو القسوة عليها أو إهدار كرامتها.. أو طردها أو.. أو.. ولذلك فإن علينا ألا ننتظر أن يخرج لنا أى عالم أو حكيم أو فقيه عظيم من معين آسن أو بيت يعلوه السباب أو تتنازعه الأهواء أو يؤكل فيه المال الحرام أو يكون فيه الإهمال والفوضى وانعدام المسؤولية وارتفاع الأصوات.
إن الأسرة والحياة الاجتماعية الصحيحة والسليمة والطعام الحلال والأب الحكيم والأم الرءوم هى المنطلقات الحقيقية لبناء أجيال صالحة وعلماء عظام.. فإذا وجدنا الآن فى مصر انهياراً لكثير من هذه المعانى فأنى لنا أن نخرج شباباً صالحاً.. فضلاً على علماء وفقهاء وحكماء ومفكرين.. رحم الله آباءنا وأمهاتنا.. وللحديث بقية فى الأسبوع القادم إن شاء الله.