كلنا شركاء فى حب مصر، لكننا نختلف فى طريقة تعبيرنا وارتباطنا بحالة الحب، منا من يحب مصر لذكريات الطفولة، ومنا من يحبها لمشاهد لا تنسى عن شقاوة المدارس، ومنا من يحبها لنفحات الشيخ الشعراوى عقب كل صلاة جمعة، ومنا من يحبها لصوت عبدالحليم أو لموسيقى عمر خيرت، والتباين فى حالة الحب سجله شعراء كثيرون بأقلامهم، أبرزهم الفلسطينى تميم البرغوثى عندما قال: «قالولى بتحب مصر فقلت مش عارف، أنا لما أشوف مصر ع الصفحة بكون خايف، ما يجيش فى بالى هرم ما يجيش فى بالى نيل، ما يجيش فى بالى غيطان خضرا وشمس أصيل، ولا جزوع فلاحين لو يعدلوها تميل، ما يجيش فى بالى عرابى ونظرته فى الخيل، ما يجيش فى بالى العبور وسفارة إسرائيل».
أحد أبرز من عبروا حديثًا عن حالة الحب للبلد بروح مختلفة، وبمضمون حقيقى، بعيدًا عن أى زيف، هو المقدم ساطع النعمانى، نائب مأمور قسم بولاق الدكرور، ولمن لا يعرفه، فهو أحد من شاركوا فى مواجهة أحداث شغب جماعة الإخوان بعد 30 يونيو، ووقتها أصيب فى أحداث «بين السرايات» بإصابات بالغة فى وجهه استدعت سفره إلى الخارج للعلاج، ومكث فعليًا تحت الرعاية الطبية 15 شهرًا، بينها 61 يومًا فى غيبوبة تامة، لا يعلم أهله ولا أصدقاؤه ولا حتى طبيبه هل سيفيق من الغيبوبة أم سيفارق الحياة، لم يكن يعلم حاله إلا الله.
عاد ساطع النعمانى إلى مصر، وفى عودته العبر، أولها حكايته مع الـ 61 يومًا غيبوبة، وكيف أنه كان أقرب إلى الرحيل عن الدنيا ونيل الشهادة، غير أن الله عز وجل أعاده للحياة، أعاده فاقد البصر، تظهر على وجهه بقوة آثار الإصابات، وتتغير نبرة صوته كثيرًا، وطريقة حديثه، وإخراج الكلمات، بعد العمليات الجراحية المتعددة التى أجراها فى منطقة الفك.
كل هذه الآلام الجسدية التى تكسر الرجال عادة، صنعت من النعمانى رجلًا قويًا مختلفًا، يمتلك روحًا معنوية عالية جدًا، كان يبثها لكل المستقبلين له فى مطار القاهرة، وظهرت فى عدة مواقف عكست للجميع قدر الاختلاف فى شخصية النعمانى وثباته وقوة إيمانه.
أول تلك المواقف سجوده على الأرض فور وصوله مطار القاهرة، وترديد الكلمات السريعة: «الحمد لله، تحيا مصر.. الحمد لله، تحيا مصر».. الكلمات كان يرددها بصدق من القلب، لو شاهدت فيديو عودته، ستشعر بها جيدًا، وستهزك فى كل مرة يرددها فيها.
ثانى موقف، هو حرصه الشديد على أن أول رسالة له تكون: «خلو بالكم من مصر»، وهنا هو لا يقولها من منطلق «إنه لازم يقول العبارة دى لأن مصر هى التى تولت نفقات سفره للخارج وعلاجه فى مستشفيات متطورة»، لكنه يقولها من إيمان قوى بأهمية مصر ودورها، وأيضًا لأنها غالية عنده، حتى أنه قال والدموع فى عينه: «والله أنا ما كنتش مصدق إنى هارجع مصر تانى، وامشى على أرضها، أنا بحب مصر قوى، خلّو بالكم من مصر».
الموقف الثالث، والأكثر تأثيرًا هو حوار الـ 15 ثانية بين المقدم ساطع النعمانى ونجله، وهذا حوار من الصعب أن تنساه من ذكرياتك.. حوار يشمل رسائل ضمنية غاية فى الجمال، والمشهد تفصيليًا كالآتى: النعمانى وحوله العشرات من ضباط الشرطة فى مطار القاهرة يباركون له العودة بسلام، دقائق ويقترب ابن النعمانى وهو طفل لا يتعدى عمره الثمانى سنوات يرتدى زى سوبر مان، يحتضن النعمانى نجله، ويقول له أمام الجميع: «ابنى، حبيبى، إن كان باباك من غير عينين ومش شايفك، فمصر كلها عيون باباك، ومصر كلها شايفاك، وما تخافش بلدنا جميلة.. قول تحيا مصر»، فيردد ابنه: «تحيا مصر» بصوته الطفولى، «تحيا مصر، تحيا مصر».
للعلم، كثيرون ممن شاهدوا فيديو عودة النعمانى لم يعلموا أنه كفيف، إلا من تلك العبارة التى قالها لابنه.
عزيزى القارئ، الهدف من سرد قصة ساطع النعمانى والمشاهد المؤثرة بها هو إعادة الحق لأصحابه.. إعادة الحق لكل من يضحى من أجل البلد، لكل من يقدم نور عينه فداء للوطن.. إعادة الحق لكل من يعشق ترابها دون رياء أو نفاق أو مصلحة.. كلماتى تعجز عن وصف نموذج ساطع النعمانى، ولا أستطيع القول فى النهاية إلا «نورت بلدك، حمدا لله على السلامة يا بطل».
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود سعيد
فعـــــــــــــــلا بكيت ولا زلت ابكي كلما شاهدت الفيديو....