هل يحتاج المرء أن يذكركم كيف انتهت التجربة الناصرية إلى الفشل بعد أن عشنا ثلاثة عشر عامًا - ما بين 1954 و1967 - فى السماء، مما يتحقق على الأرض من نهضة فى الاقتصاد والتعليم والفن والثقافة فى الداخل، وانتصارات فى الخارج، ودور مصر الكبير فى دعم حركات التحرر الوطنى، فكانت القاهرة كعبة لثوار العالم.. انتهى كل ذلك مع هزيمة يونيو 1967.. السبب الذى لا يختلف عليه أحد أن كل ما تحقق تم فى غياب الديمقراطية، ومن المضحكات أن الرئيس السادات وهو يمشى على منجزات العصر الناصرى بأستيكة، كما كنا نقول تندرًا على قوله إنه جاء ليمشى على طريق عبدالناصر.. أقول من النوادر المضحكة إنه فعل ذلك برجال الاتحاد الاشتراكى، حزب عبدالناصر ومصر الوحيد، رغم أنه غيّر اسمه مرتين، مرة حزب مصر- مسكينة مصر- ومرة الحزب الوطنى. والسادات الذى بدأ عصره بهدم جزء من سجن طرة- كما قيل- وحرق شرائط تسجيل أمن الدولة، وأعلن أن الديمقراطية هى الطريق، لم يستطع الاستمرار، فسرعان ما أعلن أن الديمقراطية لها أسنان، وعاد القبض على المعارضين أكثر تنظيمًا فى يناير من كل عام بحجة الشيوعية، وتحالف مع جماعة الإخوان فأخرجهم من السجون ودعمهم بالمال، وفتح لهم باب المال الخارجى، محاولًا فى عملية عجيبة أن يمسك برمانة الميزان بين اليسار واليمين، فكانت النتيجة طبعًا اغتياله مع أول خلاف مع الإسلاميين، وهو نفسه فى عامه الأخير راح يردد: لا سياسة فى الدين، ولا دين فى السياسة، وهى العبارة التى تسمعونها كثيرًا فى التليفزيون هذه الأيام منه، لكن فات الأوان.. فتح السادات باب العمل الخاص، والمشروع الخاص، لكنه فتح باب النهب، وكل من فى عمرى يذكرون الأخبار التى كانت لا تنقطع عن هروب رجال أعمال إلى الخارج بعد أن حصلوا على قروض كبيرة من البنوك.. صار السادات ربًا لأسرة، هى الشعب، والرئيس المؤمن لا يحب أن يطاله أى نقد.. يعنى ديكتاتور مقدس كمان، لكن قتله أهل القداسة!
حسنى مبارك لم يختلف عن السادات، فعل كل ما فعله السادات، لكن بهدوء ودون ضجة، وتحول البلد إلى عزبة للحزب الوطنى ولجنة السياسات، ساعده على ذلك فى البداية الحرب على الإرهاب التى استمرت لتكون على كل مخالف فى الرأى، واستطاع إضعاف الأحزاب التى ظهرت فى عصر السادات مثل التجمع والوفد، وازدادت قبضة الدولة الأمنية، وبلغ جشع الرأسمالية الشرهة الجديدة مداه، ولا أود الاستمرار فى التفاصيل فأنتم تعرفونها.. انتهى الأمر إلى ثورة عظيمة، هى ثورة يناير.. بالعقل وبهدوء تكتشف أن مصادرة الديمقراطية كانت وراء فشل الرؤساء الثلاثة، وكانت المأساة أعنف مع عبدالناصر الذى كانت له مشروعات بالداخل والخارج لا يمكن التقليل منها، وهكذا يمكن للديكتاتورية أن تحقق نجاحًا اقتصاديًا واجتماعيًا، لكنها فى النهاية تسقط أسهل مما تلقى بـ«عقب سيجارة»!
ما الذى جعلنى أقول هذا الكلام الآن؟، ما أسمعه من أن أولوياتنا هى الأمن.. لا أحد يختلف على أن الأمن مهم، لكن الأمن عمل وليس أولوية، عمل من الأعمال التى تقوم بها الدولة، ولا يلغى أولويات أخرى تتعلق بالحقوق والحريات.. من قبل حدث ذلك، خاصة فى عصر مبارك، ثم انتهى إلى تصدع كبير، وما يجعلنى أقول هذا الكلام هو هذا التخبط الشديد فى موعد انتخابات مجلس الشعب، لا أعرف كيف تضع اللجنة القانونية للانتخابات قانونًا تعترض عليه تقريبًا كل الأحزاب، ماذا تريد بالضبط؟ هل تريد أن تحدد من يدخل مجلس الشعب ومن لا يدخل؟.. هذا حدده الدستور، هل تريد أن تحدد من ينجح ومن لا ينجح؟.. هذه هى الكارثة، لأن التجربة القريبة تقول إنه لم يكن لدينا أبدًا مجلس شعب طبيعى منذ أول انتخابات لمجلس الأمة فى الخمسينيات من القرن الماضى، كان هناك دائمًا تزوير، ووصل الأمر فى عصر مبارك أن صار الموضوع احترافيًا، فالأجهزة الأمنية تستطيع أن تمنع أو لا تمنع، وتستطيع أن تدعو الإخوان أو غيرهم كما تشاء، وفى الوقت الذى تشاء، لتكون الصورة حلوة لكن بلا معنى.
كان الشعب يرى ذلك ويعرفه، فانصرف عن العملية السياسية، واعتبر انصرافه نجاحًا للنظام حتى فوجئ بالمنصرفين يملأون الشوارع ضده، ما الخوف من مجلس شعب طبيعى؟، الشعب الذى انتخب مجلس شعب بلا تدخل ولا تزوير يستطيع أن يغيره، ولقد رأينا كيف صار مجلس الشعب الإخوانى السلفى بعد ثورة يناير أضحوكة، ورُفع العديد من القضايا ضده، ولو لم ترفع كان سينتهى مع محمد مرسى نفسه، بل رأينا كيف أن الشعب الذى اختار محمد مرسى لم يستطع معه صبرًا، وخرج فى الشوارع ضده، ما يحدث كان تحقيقًا للديمقراطية، والشعب الذى قالوا عنه إنه غير مؤهل للديمقراطية، يقول للقائلين بذلك أنتم كذابون، نأتى بكم ونغيركم فى الموعد إذا كانت أخطاؤكم عادية، وقبل الموعد إذا كانت أخطاؤكم خطايا!
الديمقراطية ليست كتبًا تُدرس، ولا دروسًا تُحفظ، إنما هى ممارسة تخطئ وتصيب، حتى تستقر البلاد على شكل أكثر ثباتًا للمعارضة وللحكم، ويصل الأمر إلى البحث عن رئيس لمجلس الشعب قبل وجود مجلس الشعب نفسه! كأن الأمور أصبحت فى يد الكبار إلى هذه الدرجة، لمجرد أن الشعب اختار رئيسه السيسى بكثافة، ولمجرد أن الشعب يصدقه، ويراهن على مشروعاته الاقتصادية بالنجاح.. لا يعنى هذا إلغاء الشعب من المشهد، بل وضعه فى مقدمة المشهد، ليس بالكلام والحب وغير ذلك، لكن أن يترك له أن يختار ممثليه، وليأتِ الشياطين، فهو يستطيع تغييرهم ما داموا قد جاءوا بانتخابات بلا تدخل أو تزوير، لكن الوقت يطول بين من يريد مجلس شعب داجنًا، وبين من يريد أن يكون وحده فى مجلس الشعب، والنتيجة أننا بلا مجلس شعب، وهو الخطوة التى كانت ثانية فى خطة الطريق بعد 30 يونيو. أيها الكبار فى كل مكان ارفعوا أيديكم عن الوصاية على الشعب، الوصى العظيم عبدالناصر ضاعت تجربته أدراج الرياح، ومَن بعده أعلنوا الوصاية كلامًا فى كلام وضاعوا أيضًا.. اتركوا الشعب بلا قيود مسبقة، وخلصونا من كل القوانين غير الدستورية التى تتصورون أنها تضمن لكم الطاعة، وخلصونا من فكرة أنكم تريدون صلاح البلاد، فصلاح البلاد فى تلقائيتها وتجربتها للحياة السياسية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
وليد
من أسقط تجربة عبد الناصر هو العدوان الاسرائيلي مدعما بالولايات المتحدة و الرأسمالية العالمية
عدد الردود 0
بواسطة:
وليد
من أسقط تجربة عبد الناصر هو العدوان الاسرائيلي مدعما بالولايات المتحدة و الرأسمالية العالمية
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد الرازق يوسف
كلمة حق ولكن