يقولون: "عندما تسامح، فأنت لا تغير الماضى فقط، إنما تغير المستقبل أيضًا"، وفى طريق الحياة، تمر بنا المواقف والأشخاص، لنتعلم معهم كيف نغير الحياة حينما تمتلئ القلوب بالتسامح الذى لا يستطيع إنسان تقديمه ما لم يكُن يملك قوة المحبة فى قلبه ليستطيع أن يرتفع فوق أخطاء الآخرين.
جمع العجوز أولاده الثلاثة، وإذ كان يشعر أن شمس حياته قد شارفت على المغيب، أراد أن يوزع ثروته بين أبنائه بالعدل، وبعد أن قسّمها، قال لهم إن لديه لؤلؤة ثمينة هى كل ما تبقى لديه، وأنه قرر أن يقدمها إلى من قام منهم بأفضل عمل، وهنا بدأ الابن الأول يقص على والده كيف أنه التقى أثناء سفره رجلًا ثريًا وثِق به وأحبه كابن له، وإذ اضُطر الرجل أن يسافر، أودع الابن كل ما كان لديه من مال وممتلكات؛ ولمحبته وثقته الشديدة لم يأخذ عليه إيصال أمانة، وسافر مدة من الزمان. وحين عاد، سلمه الابن كل ما كان لديه بكل أمانة، فقال الأب لابنه إن ما فعله شىء عظيم، ولٰكنه يمثل الأمانة التى متى فُقدت من الإنسان، صار مخطئًا معرَّضا للمحاسبة والمسائلة.
وهنا بدأ الابن الثانى يقص على أبيه ما فعل إذ كان يسير على شاطئ البحر فى أحد الأيام، ليجد صبيًّا يصارع الأمواج ويصرخ طالبًا من ينقذه. إلا أن أحدًا لم يهتم بصراخه، ولم يتقدم لإنقاذه، فحينئذ أسرع بإلقاء نفسه، وأنقذ الصبى. وحين اجتمع المارة ليشكروه، أسرع بالهرب منهم إذ ما فعله كان إرضاءً لضميره. وهنا ابتسم الأب لابنه، وقال له: إن ما صنعتَه يُعد واجبًا على كل إنسان يحمل فى قلبه المحبة الإنسانية.
أمّا الابن الثالث، فقال: بينما كان يتمشى شاهد أحد الرعاة نائمًا تحت إحدى الأشجار، وكان هٰذا الراعى يناصبنه العداء، ويكِنّ له كراهية شديدة من دون سبب. وفجأة شاهد أحد الحيوانات الوحشية وهو يقترب منه ليفترسه! وفى لحظات، مر بخاطره، أن يترك الرجل لمصيره؛ فربما يكون هٰذا حكم الله عليه. إلا أنه تغلب على أفكاره، وأسرع بإطلاق الرَّصاص على الحيوان الذى فر مسرعًا. أمّا الرجل، فاستيقظ ليشاهد فِرار الحيوان، مدركًا أنه لولا إنقاذ الابن إياه لكانت حياته مقضيًا عليها. تأسف الرجل وندِم على ما بدر منه، وتحول إلى صديق له! وتابع الابن كلماته بإن أعظم ما شعر به حينئذ، هو السلام الذى سرى فى أعماقه إذ استطاع أن ينتصر على مشاعر الضيق التى كانت تجتاحه نحو هٰذا الشخص. وعرف معنى المحبة التى تولد المسامحة والسعادة فى نفس من يقتنيها. وهنا قدَّم الأب لؤلؤته إلى ابنه معلنًا استحقاقه إياها إذ استطاع بإنقاذه عدُوه أن يرتفع فوق مستوى المشاعر الإنسانية التى تبحث عن استرداد الكرامة أو الانتقام.
قارئى العزيز ربما تكون قد قرأت القصة من قبل أو عاصرت أحداثًا مشابهة لها إلا أن عظم المعانى هى ما يطل علينا من الكلمات، إن المحبة الحقيقية العميقة والصادقة تساعد الإنسان على تخطى أخطاء غيره تجاهه، وتهب له القدرة على الارتفاع بالمواقف ليسامحه متى أخطأ فى حقه. لذا، فالمحبة تَصير زادًا يستطيع الإنسان به أن يسير قُدمًا نحو بناء جسور السلام والمسامحة تجاه رفقاء طريق الحياة. إنها نبع الضوء الذى يبدو واضحًا جليًّا فى لحظات الحياة الحالكة الظلمة، التى يظن الشخص فيها أنه قد فقد معالم الطريق. إنها ارتقاء وارتفاع بإنسانيتك نحو الله محب البشر.
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى