فى تاريخ الأمم والشعوب أيام لا تنسى، وذكريات تتناقلها الأجيال جيلا بعد جيل، ويظل يذكرها الزمن مهما طالت السنين ومهما تغيرت الوجوه، ومن بين تلك المناسبات، يأتى العيد الوطنى للمملكة العربية السعودية الذى احتفلت به السعودية أمس، ليس داخل أرض المملكة وحسب بل فى جميع دول العالم، من خلال سفاراتها المنتشرة فى جميع بقاع الأرض بدقة فائقة، ترجمت فكر ووعى سمو الأمير سعود الفيصل، وزير خارجية المملكة العربية السعودية، الذى يشار إليه بالبنان فى المحافل الدولية، باعتباره العقل الدبلوماسى الفذ، وصاحب البصمات الواضحة فى التحرك الدبلوماسى العربى على المستوى الدولى، خاصة فى أوقات الشدائد التى تظهر فيها معادن الرجال.
احتفال السفارة السعودية بالقاهرة بالعيد الوطنى للمملكة أقامه أمس السفير النشط أحمد بن عبدالعزيز قطان، سفير المملكة العربية السعودية بمصر، الذى كان فى استقبال المدعوين بابتسامته الصافية، وباستقباله الحار الذى خرج من قلبه دون زيف أو تكلف، فالسفير أحمد قطان سعودى الجنسية، مصرى الهوى، عربى التوجه، لذا فإنك ما إن تراه بوجهه البشوش حتى تشعر بأنك تعرفه منذ سنوات، وأن ما يجرى بين عروقه هو نفس الدم ونفس المشاعر.. مما جعله يتمكن طوال فترة عمله بالقاهرة من تحويل سفارة المملكة العربية السعودية إلى ملتقى للأشقاء من كل الأقطار العربية داخل مبنى السفارة.. أما المبنى الجديد الذى أقيم به الحفل فقد أقامته المملكة وكأنه صرح عملاق، يشهد بعظمة وقوة ومتانة العلاقات التى تربط بين مصر والسعودية.
ولفت نظرى فى هذا الاحتفال أنه لم يكن مجرد احتفال سعودى، بل كان فى حقيقة الأمر تظاهرة حب ووفاء وتقدير من الشعب المصرى إلى المملكة حكومة وشعباً، وعلى وجه الخصوص تقديراً كبيراً لتلك المواقف العربية الأصيلة للعاهل السعودى الملك عبدالله بن عبدالعزيز، الذى يحظى بحب واحترام وتقدير كل مصرى، فمواقف الملك عبدالله ستظل محفورة فى وجدان الملايين من المصريين الذين شاركوا فى ثورة 30 يونيو الشعبية غير المسبوقة، فقد كانت الكلمة العفوية التى ألقاها جلالته فى أعقاب الثورة مباشرة، والتى عكست تأييده بلا حدود لمصر، بمثابة صمام الأمان لتلك الثورة الشعبية التى أحاطتها المؤامرات والدسائس من الداخل ومن الخارج على حد سواء، ولكن تأييد الملك عبدالله لها كان له عظيم الأثر فى ترجيح كفة الثورة وتغلبها على كل ما أحاطتها من هجمات شرسة.
نعم لم يكن احتفال السفارة السعودية بالعيد الوطنى للمملكة مجرد مناسبة احتفالية سعودية فقط أعد لها ونظمها السفير قطان بحكمته المعهودة وقدرته الفائقة على لم الشمل العربى بين أروقة السفارة السعودية بالقاهرة، وإنما كان بحق مناسبة غالية على النفوس، للتعبير عن المشاعر الفياضة التى تغمر الشعب المصرى بكل فئاته وطوائفه تجاه البلد الأمين الذى يضم على أرضه أطهر بقعة فى العالم، وهى الكعبة المشرفة، وأزكى رفاة على وجه الأرض وهى رفاة الحبيب المصطفى محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.. فليس غريبا على شعب متدين بطبعه مثل الشعب المصرى أن يتعلق قلبه ببلد فى حجم ومكانة المملكة العربية السعودية، بما فيها من أماكن مقدسة، ليس فى مكة والمدينة فقط بل فى مناطق متفرقة من أرض المملكة الشاسعة، والتى شهدت أحداثاً جساماً فى تاريخ الدعوة الإسلامية.
إن يوم 23 سبتمبر من كل عام ليس يوماً عادياً بالنسبة للمملكة العربية السعودية، ففى مثل هذا اليوم من عام 1932 سجل التاريخ مولد المملكة العربية السعودية بعد ملحمة البطولة التى قادها المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - على مدى 23 عاماً، بعد استرداده لمدينة الرياض عاصمة ملك أجداده، وقد اختار الملك عبدالعزيز يوم الخميس الموافق 23 سبتمبر 1932م يوماً لإعلان قيام المملكة العربية السعودية.
وعلى الرغم من أن المناسبة سعودية فإن المشاعر فيها مصرية خالصة كما يفوح منها عبق التاريخ بكل ما فيه من معان للعزة والكرامة والكبرياء والعروبة، لذا فإننى أرى أن العلاقات المصرية السعودية القوية على مر العصور لم تأت من فراغ، وإنما هى انعكاس طبيعى لرصيد من التراكمات الإنسانية المفعمة بالعروبة.. فالعلاقات بين مصر والمملكة العربية السعودية تعتمد على أسس وروابط قوية، نظراً للمكانة والقدرات الكبيرة التى تتمتع بها البلدان على الأصعدة العربية والإسلامية والدولية.. وهنا تحضرنى جملة شهيرة أراها فى غاية الأهمية قالها ذات يوم الملك عبدالعزيز آل سعود، حينما أراد توضيح الأهمية الاستراتيجية للعلاقات المصرية السعودية، حيث قال «لا غنى للعرب عن مصر.. ولا غنى لمصر عن العرب».
واللافت للنظر أن العلاقة بين مصر والسعودية قد شهدت تطورًا قويًا منذ توقيع معاهدة الصداقة بين البلدين عام 1926م، ففى ذلك الوقت أيدت المملكة مطالب مصر الوطنية فى جلاء القوات البريطانية عن الأراضى المصرية، ووقفت إلى جانبها فى الجامعة العربية والأمم المتحدة وجميع المحافل الدولية وفى 27 أكتوبر عام 1955 تم توقيع اتفاقية دفاع مشترك بين البلدين.
ويسجل التاريخ بحروف من نور تلك الوقفة المشرفة للمملكة حينما وقفت بكل ثقلها إلى جانب مصر أثناء العدوان الثلاثى على مصر عام 1956م، وقد قدمت المملكة لمصر فى 27 أغسطس 1956 «100 مليون دولار» بعد سحب العرض الأمريكى لبناء السد العالى، ليس هذا وحسب بل أعلنت المملكة فى 30 أكتوبر التعبئة العامة لجنودها لمواجهة العدوان الثلاثى على مصر.
وبعد أن زال العدوان الإسرائيلى على الدول العربية مصر وسوريا والأردن عام 1967م قام جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز بتوجيه نداء إلى الزعماء العرب بضرورة الوقوف إلى جانب الدول الشقيقة المعتدى عليها وتخصيص مبالغ كبيرة لتمكينها من الصمود، وظل الموقف السعودى على هذا الحال واستمرت المساندة السعودية لمصر حتى حرب أكتوبر 1973، حيث ساهمت المملكة فى الكثير من النفقات التى تكبدتها مصر قبل الحرب، ولن يخفى على احد معركة البترول التى قادتها المملكة لخدمة حرب أكتوبر.. ويظل الموقف السعودى المشرف يتصاعد يوماً بعد الآخر حتى يومنا هذا، ففى أعقاب ثورتى 25 يناير للعام 2011م، و30 يونيو للعام 2013م، قدمت السعودية دعمها السياسى والدبلوماسى والمالى لمواجهة المواقف المناوئة للثورة، ثم كانت فى طليعة الدول التى قامت بحظر أنشطة جماعة الإخوان والجماعات الإرهابية التى كانت تعمل تحت مظلتها، وسعت بكل ما تمتلك من قدرة مالية وقوة دبلوماسية من أجل مساندة الاقتصاد المصرى بعد الثورة.
إنها ملحمة من العطاء بلا حدود، استكمل فيها الملك عبدالله ما بدأه ملوك السعودية الأوائل منذ المؤسس الراحل عبدالعزيز آل سعود، مروراً بالملك فيصل بن عبدالعزيز طيب الله ثراه، فمن يقلب صفحات التاريخ المصرى الحديث والمعاصر لا يجد مناسبة مهمة عاشتها مصر إلا وتكون المملكة العربية السعودية حاضرة فيها وبكل بقوة.
وهذا ليس غريباً على بلد تحن إليه الأفئدة من بقاع الأرض كافة، بلد كرمه الله سبحانه وتعالى حين استجاب لدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام حيث يقول رب العزة جل شأنه «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ».. كما كرم الله هذه البقعة الطاهرة من الأرض حيث قال فى محكم آياته أيضاً «رَبَّنَا إِنِّى أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ».
وها هى المملكة كانت وستظل إلى يوم الدين محط أنظار المسلمين فى شتى أنحاء العالم، حيث يقصدون السكينة والتزود بالتقوى والتقرب إلى الله عز وجل، وهذه نعمة لا يعادلها كنوز الدنيا، وهذا شرف لا يناله إلا شعب طيب يعى ما عليه من مسؤوليات تجاه الدعوة، ويقدر معنى الترابط والتراحم والتواد مع الشعوب الأخرى.
ولأننى من عشاق زيارة بيت الله الحرام وقبر رسوله الكريم فقد كان لى شرف زيارة المملكة العربية السعودية عدة مرات، ولمست بنفسى تلك المعاملة الكريمة التى يلقاها أبناء الجالية المصرية هناك، وهى الجالية التى تعد أكبر جالية مصرية فى الخارج حسب إحصاءات عام 2012، حيث يبلغ عدد أعضاء الجالية المصرية فى السعودية مليونا ونصف المليون مصرى تقريبًا.
والحق يقال فإن تلك الجالية لم تكن سلبية فى التعامل مع ما يشهده الوطن من أحداث جسام، فقد دعمت الجالية المصرية بالسعودية المطالب المشروعة للشعب المصرى الكريم فى 30 يونيو، وشهدت فترة الانتخابات الرئاسية الأخيرة إقبالًا كبيرًا من جانب أبناء الجالية فى السعودية للمشاركة فى عملية التصويت، وإحقاقاً للحق فقد ساهمت التسهيلات التى وضعتها لجنة الانتخابات الرئاسية فى زيادة إقبال المشاركين على عملية التصويت، والتى كان من أهمها إلغاء عملية التسجيل المسبق للناخبين، وهو ما أتاح الفرصة لأكبر عدد ممكن للمشاركة فى عملية التصويت، حيث بلغت أعداد الناخبين 76.609 ناخبين، وذلك وفقًا لما أعلنته لجنة الانتخابات الرئاسية عن نتائج الانتخابات بالقنصلية العامة لجمهورية مصر العربية فى الرياض وجدة.
أعتقد أنه من أجل كل ما سبق يمكننى القول إن العيد الوطنى للمملكة العربية السعودية هو بحق مناسبة للتعبير عما يجيش فى صدورنا نحن المصريين تجاه بلد شقيق فى حجم ومكانة المملكة العربية السعودية، التى كانت ولا تزال تضرب المثل فى التضامن العربى، والوقوف فى صدارة دول المنطقة إلى جوار الشقيقة الكبرى مصر، التى بكل تأكيد لم ولن تنسى لأشقائها تلك المواقف المشرفة التى أحاطوها بها فى أوقات المحن، ففى أوقات المحن والشدائد تظهر معادن الرجال بل ومعادن الدول أيضاً.