إبراهيم عبد المجيد

الطيبون يصعدون مبكراً إلى السماء

الجمعة، 26 سبتمبر 2014 07:14 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
قد يبدو هذا موضوعًا خاصًا، لكنه بلا شك يحدث مع الكثيرين الذين لا نعرفهم، والواحد منا لايبدو منتبهًا إلى عبثية هذا العالم وهذه الحياة إلا حين يصله أمر من ذلك. أخبار الموت تحاصرنا بسبب الإرهاب القذر، لكن كونها مسألة سياسية يشتعل الغضب حتى يتم القصاص من القتلة ونتفرغ لموت آخر! فى النهاية نصل إلى نتيجة ننساها دائمًا، وهى أن الموت نهاية كل حى. وحين يكون الحى قريبًا منك تقول ذلك والألم يعتصرك، ولا تجد أمامك من صبر إلا فى أبواب الله المفتوحة للدعاء بالرحمة والمفغرة وإسكان الشهداء فسيح جناته.

لم يكن الأمر سهلًا أن تعرف نبأ الانفجارات تودى بحياة اثنين وجرح ستة جروحًا صعبة عند وزارة الخارجية، ثم سقوط طائرة حربية بطاقمها، ستة قيادات. لكن الموت يحاصرك فيقفز أمامك مع آخرين تعرفهم، شباب صغار رأيتهم منذ طفولتهم وكبروا مع أبنائك فى المدارس، ولم يبدو أبدًا فى يوم أنهم بعيدون عن روحك، محبتك لهم من محبة أبنائك، تعرف قصة كفاحهم الرائعة، وكيف أخلصوا فيها ليكونوا ورودًا يانعة تتوقع أن تفتح لهم الحياة أبواب البهجة التى ينثرونها هم على من حولهم، لكن بعيدًا جدًا فى مكان لم يخطر على بالك إنه منه يأتى الموت وهم يقفون على الشاطئ، أجل الشاطئ.. شاطئ عجيبة فى مرسى مطروح، سبعة يقفون بعد أن التقطوا صورة معًا بين الماء القريب الذى لا يرتفع حتى ركبهم بعيدين عن كل خطر، فتأتى موجة جبارة لا تعرف لماذا أتت فى هذا الوقت، وكيف وصلت إلى الشاطئ بهذا الارتفاع، تطويهم وتأخذهم إلى الأعماق.. يستطيع ثلاثة منهم النجاة بعد أكثر من ساعة كفاحًا ضد الموج والدوامات التى أخذتهم الموجة إليها، ويختفى أربعة فى الأعماق، تعرف منهم اثنين من أجمل ما عرفت فى حياتك، مهندسان أحبا الدنيا وأحبا من حولهما وسيرتهما تمشى بالعطر بين الناس، الأول هو المهندس معتز الشربينى ابن منطقة إمبابة مثل الثانى ومثل أبنائى، حيث رأيته طفلًا فى الحضانة مع أحد أبنائى سنة بسنة هو وثلاثة من ألاطفال، صار الأربعة فى الابتدائى وفى الإعدادى والثانوى والجامعة، وينضم إليهم مع التقدم فى التعليم عدد آخر من الشباب الجميل لا يتركون بعضهم أبدًا.. يتزوج منهم من يتزوج، ويعملون جميعًا فى أعمال مختلفة وجهات مختلفة لكنهم لا يتفرقون، وكأنهم خلقوا قبل الناس جميعًا معًا لا يعرفون إلا بعضهم ولايعرفون إلا الصدق والأمانة والمحبة للبشر جميعًا، والصبر على كل تعب.

هكذا كان المهندس الشاب معتز الشربينى الذى بعد أن استطاع شراء شقة بعد ثمانى سنوات من التخرج والعمل الجاد ليتزوج يأتينا خبر غرقه فى مرسى مطروح، أما الثانى الذى يعرفه أبنائى أكثر منى لأنه انضم إلى هذه الشلة الجميلة متأخرا فهو المكافح الصلد الهش الجسد المهندس محمد جابر الذى حين فقد والده وهو طالب فى الثانوى عرف طريق العمل حتى تخرج فى كلية الهندسة راعيًا أخته ووالدته، وتزوج وأنجب واستقر به العمل فى الموقع الإلكترونى للنادى الأهلى. ويذهب مع معتز، فهما زميلان بكلية الهندسة إلى البحر الذى ينتظرهم وهم يلتقطون صورة قرب شاطئه.. لم يكن سهلًا أن أتلقى الخبر، كيف لمن وقفوا بعيدين عن كل خطر تأتيهم موجة جبارة تطويهم تحت الماء تصطدم بهم الصخور فيخرجون موتى ومصابين معًا.. هو اختيار السماء، وعلى الفيس بوك تظهر صورة معتز فيقول البعض وهم يعزوننى يبدو حقًا أنه ابن موت، على وجهه علامات الرحيل.. أتذكر آخر مرة رأيته وهو يبحث عن شقة حيث نسكن ليكون جوار ابنى وزملائهم الذى استطاعوا ذلك ليكونوا قريبين من بعضهم، وكما كتب ابنى حزينًا على الفيس بوك «كيف وقد كنت أطمع أن نصير معا فى الستين والثمانين وقد تزاملنا منذ الثالثة من العمر، كيف تتركنى يامعتز» أدمى قلبى على الشاب الجميل.

أذهب إلى العزاء فى إمبابة التى تركتها لأراهم جميعًا، الشلة التى لم تفترق، أراهم معًا كما كنت أراهم صغارًا.. أتذكر كل ما كان يحيط بالناس فى إمبابة من إغراء بالحياة الضالة، وكيف كان هؤلاء الشباب منذ طفولتهم جزرًا للطيبة والوداعة ورفض الخطأ والخطايا حتى استطاعوا أن يفوزوا بالعلم والعمل. لم يكن ذلك سهلًا، وكلف أهلهم كما كلفنا كثيرًا جدًا من الاهتام والرعاية والرعب عليه.. رحت أتذكر سيرتهم، صمتهم أمامى، ضحكهم، حبهم لبعضهم، بيتنا وبيوتهم التى كانت مفتوحة لهم يمضون فيها الليالى، كيف كنا نحن الأهل مطمئنين أنهم سيكونون من أجمل الناس، ولقد صاروا كذلك حقًا، وأخذوا طريقهم فى الحياة الصحيحة. لم تتوقف دموعى بين الناس، حاولت أن أخفيها فلم أستطع، عدت إلى البيت وحاولت أن أغوص فى الحياة العامة كما أفعل دائمًا، هربًا من الألم، لكن هذه المرة كان أقوى مما حولى.. فرحت بوقف حبس ماهينور المصرى، أيقونة النضال السلمى فى الإسكندرية ومصر.

وأحاول أن أفرح أكثر، لكن يظل فى قلبى ألم من أجل المهندسين الشابين معتز الشربينى الذى لم يفارق أولادى ولم يفارقوه، ومحمد جابر الذى يحبه الجميع، ويحكون عن كفاحه وبشاشة وجهه وحبه للناس والحياة. عزائى لأهل الجميع.. من ماتوا بلا معنى للموت، ومن قتلهم الإرهاب القذر، ولأهل الطيارين الذين كانوا يشيرون للفلاحين أن يبتعدوا عن مكان سقوط الطائرة حتى لا يموتوا معهم.. عزائى لنفسى أنا الذى لن أرى مرة أخرى المهندس معتز الشربينى، ابنى الذى لم أنجبه.. السماء فى النهاية لا تطلب إلا من يريدهم الله، فهم جميعًا أفضل منا.. لقد عرفت عن الثالث علاء محمود أنه كان يعمل بأحد المواقع الإلكترونية لـ«اليوم السابع»، وأنه كان مثالًا للطيبة والوداعة أيضًا، والرابع رامى حسن.. كلهم مهندسون وفى الواحدة والثلاثين من العمر، ولدوا معا وتعلموا معا وغادرونا معا، ليس لنا إلا الرضا باختيار السماء التى تنقذ أبناء الله الطيبين من شرور الأرض.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة