غضت الدولة الوطنية الطرف عن جماعات الإسلام السياسى، فسمحت لها بالتواجد كتنظيمات دينية تعبر عن قوى اجتماعية وسياسية متدينة فى المجتمع، وكان أكبر مثال على ذلك سماح الدولة المصرية فى مطلع عهد عبد الناصر بالبقاء بعد حل كل الأحزاب، وكان هناك أمل ببناء توافق ولكن طبيعة التنظيم الإخوانى قادت لمواجهة وضعت الدولة فى مواجهة الإسلام السياسى.
بيد أنه مع عصر السادات عرض على الإخوان أن يعودوا كجمعية دعوية ولكنهم أصروا على الاحتفاظ باسم الجماعة، فسمح لهم بالعمل فانتشروا وتوسعوا وأسسوا لجيل مختلف أخذ بيد الجماعة إلى الحضور فى النقابات والأحزاب ومجالس النواب والمؤسسات فى الثمانينيات، ولكن ظل التنظيم يحتفظ بروح الثأر المؤجل من الدولة المصرية التى واجهته فى عام 1954.
وفى عصر مبارك ظلت الجماعة محظورة لكنها موجودة فى نفس الوقت تتفاوض مع النظام وتتحاور معه وتتقاسم مقاعد المجالس النيابية بتوافقات معه، عبدالناصر سمح للتنظيم بالوجود فى البداية، باعتباره شريكا معه فى الثورة، والسادات سمح للتنظيم بالوجود باعتباره الرافعة الاجتماعية والسياسية التى ستملأ فراغ اليسار وتواجهه، وفى نفس الوقت تدعم النظام السياسى.
ومبارك استمر فى سماحه للتنظيم باعتباره الوجه المعتدل للإسلام فى مواجهة الجماعات المتشددة التى كانت قد ظهرت فى أواخر الثمانينيات، مع صعود المسألة الأفغانية وعولمة تلك الحركات الجهادية من ناحية، كما أنها مثلت تهديدا للنظام السياسى من جهة أخرى.
ما نود الإشارة إليه هنا هو وقف الدولة الوطنية الحديثة عن التلاعب بورقة القوى الإسلامية فى لعبة توازناتها الداخلية وصراعاتها السياسية، لأن هذا يجعل تلك القوى خارج القانون، وفى سياق تنظيمات سرية مغلقة غير معروفة للدولة وغير مراقبة منها.
تلك الحالة التنظيمية لقوى الإسلام السياسى هددت هوية الدولة المصرية بعد وصول الإخوان للسلطة بالسيطرة على البرلمان وعلى مجلس الشورى، ووصول رئيس ينتمى للجماعة إلى سدة الحكم، هنا التنظيم أراد أن يكون بديلا للدولة وطرح أيديولوجية إسلامية لكنها أكثر كثافة من قدرة المصريين على تحملها، فالتدين لدى المصريين هو عمل داخلى عميق وذاتى ولا يقبل فرض صيغة محددة لطريقة تدينه.
الآن فى صنعاء وهى عاصمة اليمن يبدو المشهد ذاته أو قريبا منه مما حدث فى مصر، مشهد التجمع فى ميدان التحرير قبل إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية فى جولتها الثانية بين مرسى وشفيق، والذى كان مشهدا معبأ باحتمالات مواجهة لا مفر منها، ثم التجمع فى ميدان رابعة لإعادة الرئيس المعزول، لم يكن مشهد رابعة سوى بروفة لاحتمالات مشاهد أخرى تعكس بزوغ قوى التنظيمات الدينية لإسقاط الدولة الوطنية، هذا ما نراه اليوم فى صنعاء، جماعة لديها تنظيم اسمه أنصار الله، يقوده عبد الملك الحوثى، هذا التنظيم يرفع مظالم المجتمع اليمنى فى مواجهة الدولة، لكنه يحمل أهدافه هو فى مواجهة الدولة والمجتمع معا، مستعينا بقوة إيران وبخبراء حزب الله فى سياق مشهد إقليمى معبأ بتوترات طائفية ومذهبية تكاد تعصف ببنى المجتمعات والدول والحياة جميعا.
الحوثيون زيدية، وهم يمثلون ثلث المجتمع اليمنى، وغالبية المجتمع اليمنى شوافع (نسبة للإمام الشافعى)، وهم أشاعرة، وحين سمح عبدالله صالح الرئيس السابق للسلفيين بالتواجد فى دماج ومنطقة صعدة التى يتوافر فيها الحوثيون لكى يوازنوا ويحدوا من قدرتهم، فإن الشوافع وقفوا مترددين يترقبون خوفا من السلفية الذين ينظرون للأشاعرة باعتبارهم مبتدعة، وهنا فإن الشوافع قطعوا ترددهم، ووجدوا أنفسهم أقرب للحوثيين من السلفيين، لعبة توظيف القوى الدينية الاجتماعية سياسيا فى مواجهة بعضها البعض يجب أن تتوقف إذا أرادت الدولة الوطنية لنفسها السلامة ولمجتمعها الأمان.. وللحديث بقية.