خبر عابر مر أمام أعيننا دون أن ندرى كم نحن غافلون عما تفعله حكومات جادة فى سعيها لتخفيف حدة الفقر فى بلادها دون أن تحدث خللا اجتماعيا واقتصاديا حادا يهدم كل ما يحاولون بناءه، الخبر ببساطة مفاده أن رئيس وزراء هذا البلد، ناريندرا مودى، وهو اسم هندى صميم كما ترون، أعلن منذ أيام عن برنامج طموح يهدف توفير حساب مصرفى لكل مواطن هندى يتمتع من خلاله بمزايا مالية لم تكن متاحة له فى الظروف العادية، هذا الحساب يمنح صاحبه وثيقة إقراض وتأمين ضد الحواث بما يعادل 100 ألف روبية «حوالى 13 ألف جنيه مصرى» ووثيقة أخرى للتأمين على الحياة بثلث هذا المبلغ.
وثمة ملحوظتان أساسيتان على هذا البرنامج، الأولى: أن فى اليوم الأول لإطلاقه اشترك فيه 15 مليون مواطن، وهو ما شجع الحكومة الهندية على الاستمرار فيه، ووضعت لنفسها هدفا بأن يرتفع العدد إلى 75 مليون حساب لنفس العدد من الأسر، وهم عماد الطبقة الفقيرة فى هذا البلد الذى يبلغ تعداد سكانه مليار و300 مليون نسمة، بحسب آخر تقديرات إحصائية، مما يعنى أن هذا البرنامج، إن نجح، سيغير وجه هذه الطبقة وربما يرفع بعضا منها إلى مستوى الطبقة المتوسطة من خلال استغلال هذه المبالغ فى مشروعات صغيرة ومتوسطة ناجحة، دعك من أن بعضا منهم سيغرق فى الديون ويكون مصيره السجن، فالضوابط التى تسعى الحكومة الهندية لوضعها حول هذا البرنامج كفيلة بكبح جماح الاستخدام الأهوج لتلك الأموال.
الملحوظة الثانية: تتعلق – فى نظرى - بعبقرية القرار الهندى بربط الدعم المخصص للفقراء بهذا البرنامج، حيث تخطط لتحويل أموال الدعم للمواطنين عبر هذا الحساب، فتستطيع أن تحاصر أى فساد مرتبط بمنظومة الدعم، كما أن البنوك ستستفيد من هذه الأموال فى مشاريع ربحية فتقلل تباعا من النسبة الفائدة المفروضة على المواطن فى حالة الإقراض، ولا تحدث لديها فجوة تمويلية عند ارتفاع منحنى الإنفاق على أقساط التأمين.
قادتنى تلك الملحوظات إلى وجه شبه كبير بين واقع مصر والحالة الهندية، وإن كان الفارق أكبر فى عدد السكان متوازيا مع حجم الموارد، لكن فى مصر أيضا تقف مشكلة تسارع النمو السكانى عقبة شرسة فى وجه أى محاولة للتنمية لا تكن سرعته أكبر من نسبة تزايد المواليد، هنا تكمن المشكلة وأيضا الحل الذى فطنت إليه بعض الدول الناشئة اقتصاديا، فتعمل دوائرها الفكرية كخلية نحل بحثا عن معادلة صعبة التنفيذ عبقرية المنطق سريعة التأثير، ألا وهى استغلال تلك الطاقة السكانية المتزايدة لتنشيط الاقتصاد وليس العكس، وهو ما عبر عنه رئيس الوزراء الهندى بقوله: «هذا البرنامج سيربط الفقراء بالتيار العام للاقتصاد الهندى». الهدف إذن ليس إغناء هؤلاء الناس بقدر السعى لانتشالهم من قاع البئر وتنشيط فكرة المدخرات لديهم، وهو ما يشبه لحد كبير ما فعله صانع القرار المصرى باللجوء لشهادات الاستثمار لتمويل قناة السويس، فهذا مشروع وطنى طموح يحتاج لتمويل ضخم فى بلد شحذ موارده المالية المعتادة، وتكدست المدخرات إما فى البنك أو أسفل مرتبة السرير، ترقبا لما قد تجلبه رياح السياسة الهائجة.
ما نحتاج لنتعلمه من الهند ليس التأثر بأفلامهم الغارقة فى العاطفة والخيال والخرافة، يكفينا فقط أن ننظر كيف أصبحوا فى المرتبة الثانية عشرة ضمن أقوى الاقتصادات فى العالم، رغم كل مشاكلهم الاجتماعية والعرقية والسياسية، إما هذا أو أننا نناقض أنفسنا ونقف عند سلبيات الآخرين، ولا نرى عيوبنا أو ماذا يفعل هؤلاء الآخرون لتفادى سلبياتهم.
تذكرت هذا التناقض وأنا غارق فى الدهشة من مشهد هندى مثير يقوم فيه البطل بتكسير عظام خمسة رجال فى ضربة واحدة ثم يقفز من فوقهم ليحرر صديقته الجميلة، وقد امتلأت عيناها دمعا فرحا بهذا المنقذ الذى خرج من قلب العاصفة فأخذت ترقص فرحا كحية قطع ذيلها، فاستفزنى تأثر من حولى بالمشهد كأنه حقيقى، فقلت مثيرا غيظهم «هذه الفتاة لا تستحق أن يضرب هؤلاء الرجال بعضهم من أجلها» فباغتتنى فتاة صغيرة بقولها: دى أمورة جدا إنت إزاى متعرفش كارينا كابور؟! فابتلعت لسانى وسكت راضيا بدور الجاهل.