معلوم أن العامية المصرية ليست متطابقة الأسماء والأوصاف فى كل مناطق المحروسة، وكثيرا ما يختلف اسم أداة واحدة بين بلد وآخر، كالفأس مثلا التى هى فأس عندنا فى ريف شمال الغربية، وهى «طرية» فى الفيوم ومناطق أخرى، وكثيرا جدا ما تجد نسبا بين العامية وبين الفصحى ولو فى وجه من وجوه معنى اللفظ.
ولقد كنت فى يوم 23 سبتمبر 2014 فى شرف لقاء الأستاذ هيكل مع مجموعة من الزملاء بعضهم أصدقاء، وجلسنا فى معيته لمدة ساعتين، ولا أدرى لماذا احتدم فى ذهنى- وقد آثرت الصمت والإنصات معظم الوقت- التفكير فى مسألة النضج وعدم النضج، وحاولت أن أبحث عن وصف فى ذهنى لما رأيت أنه من باب عدم النضج فلم تسعفنى الفصحى، واستقر الاختيار بينى وبين نفسى على كلمة عامية طالما سمعتها ونطقتها هى كلمة «عجر» - عين مفتوحة وجيم ساكنة - وهى تطلق فى منطقتنا شمال الغربية، وربما فى كفر الشيخ على كل ثمرة لم تنضج.. فالجوافة الخضراء اليابسة والبرتقال الأخضر الصلب، وما شابههما من ثمار غير ناضجة هو «عجر» لا يؤكل، بل إن بعضه قد يكون فيه شىء من السمية مثل عجر الطماطم!
كنت أتابع الحوار ولم أتدخل إلا بتعليق فى مرتين، الأولى عندما بادرنا الأستاذ بقوله، إن فلانا - الذى هو العبد لله - كان يأتينى منذ زمن طويل كنموذج للثوار، أما الآن فقد «بقى زينا»، وعلقت قائلا: كلام سيادتك صحيح وهناك دليل عليه من إهداءاتك لى على كتبك، إذ كان أول إهداء سنة 1976 «إلى أحمد الجمال شابا ثوريا مناضلا من أجل وطنه وأمته العربية».. وظل الإهداء يتطور إلى أن أصبح إلى «فلان صديقا عزيزاً»!!
وكان تعليقى الثانى عندما دار الحوار بين الأستاذ وبين الصديق الدكتور حسام عيسى حول تقييم تجربة محمد على، وقد قلت، إنه ربما كان خطأ محمد على هو قبوله بوجود نظام تعليمى مزدوج - الأزهر والتعليم المدنى الحديث - الأمر الذى أدى لازدواجية الثقافة والوجدان وما نعانيه الآن تمتد جذوره إلى تلك الحالة! وبالطبع قام الأستاذ بالرد، ولم أتكلم لا قبل ذلك ولا بعده، وإنما كنت مشغولا بحكاية النضج والعجر!
كان بعض الكلام ينتمى إلى فصيلة «العجور»، الذى ربما هو صيغة مبالغة من «العجر» ولمن لا يعرف العجور - عين مفتوحة وجيم مشددة مضمومة - فإنه ثمرة تقع بين القثاء وبين الشمام البلدى بتاع زمان، وعندما ينضج يصبح لونه الخارجى أصفر، وبذوره بيضاء، أما لحمه الداخلى فهو طرى ماسخ لا رائحة له ولا أى نسبة حلاوة من أى نوع.. ولذلك سماه الناس «عجور» نكاية فيه لأنه ناضج شكلا، وبلا طعم ولا نكهة فى الحقيقة!
ولأننى «نمكى» حاولت أن أجد نسبة بين العجر بالمعنى العامى وبين ما قد يكون معناه بالفصحى، فذهبت إلى «الحاج» ابن منظور رضى الله عنه فى لسان العرب، ووجدت مادة «عجر» وجاء مما جاء فيها: «عجِر وعجُر بكسر الجيم وضمها: صلب شديد».. «والعُجرة بضم العين كل عقدة فى الخشبة وقيل: العجرة العقدة فى الخشبة ونحوها أو فى عروق الجسد»، وعرفت حكاية «عجره وبجره» إذ يقول ابن منظور فى لسان العرب إنه روى عن على كرم الله وجهه أنه طاف ليلة واقعة الجمل على القتلى مع مولاه قنبر، فوقف على طلحة بن عبيد الله وهو صريع فبكى ثم قال: عز على أبا محمد أن أراك معفرا تحت نجوم السماء، إلى الله أشكو عجرى - عين مضمومة وجيم مفتوحة - وبجرى - باء مضمومة وجيم مفتوحة -.. قال محمد بن يزيد: معناه همومى وأحزانى، وقيل: ما أبدى وأخفى.. وقال أبوعبيد: يقال أفضيت إليه بعجرى وبجرى، أى أطلعته من ثقتى به على معايبى»، انتهى الاقتباس من لسان العرب.
وهكذا وجدت نسبا بين العجر الذى طالما مارسنا التخريب بإسقاطه من الشجر قبل نضجه فنهجم على الجوافة أو النخيل أو البرتقال أو الجميز، ونقذف الطوب حتى تسقط الثمار التى لم تنضج بعد ونحاول أكلها فنبصقها من فورنا لأنها مازالت عجراً!
وفى جلسات الفكر والسياسة لا تعدم حضرتك - أعدم الله كل كارهيك - وجود بشر هو فى مرحلة العجر، رغم أنه يبدو ناضجا بكبر سنه وشيب أو صلع رأسه وشياكة ملبسه وما إن يتكلم أو يعلق فإنك لا تملك إلا أن يلفظه سمعك ومن ثم عقلك!.
وطبعا هناك من هو مستعد لأن يدفع نصف عمره لكى أستطرد فى الوصف ليتبين من ذلك الأعجر الذى كان فى حضرة الأستاذ الكبير، وربما يدفع النصف الآخر إذا أصابنى مس الفجاجة وربما البجاحة فقلت اسمه صراحة ليصبح الأمر «عركة» ابتداء من استحلال إفشاء ما دار فى جلسة خاصة بمكتب الرجل الكبير، وليس انتهاء بأن يقوم ذلك الأعجر برد الصاع صاعين!.. ولذلك لن أستكمل وإنما سأنتقل إلى العكس ألا وهو النضج!
لم أنقطع عن زيارة الأستاذ فى مكتبه المنزلى منذ فبراير 1974 اللهم إلا الفترة التى قضيتها فى السجن وفترة الترحيلة فى بلاد النفط، وهى زيارات كانت تنتظم، متقاربة أحيانا وأحيانا أخرى تتباعد، كما هو حادث منذ عدة سنوات!.. ورغم تباعد الزيارات فإن خيوط المودة والاعتزاز والاحترام موصولة، رغم ما ارتكبته أحيانا من نزق فيه لون من ألوان قلة الذوق!.. وهى فترة أربعين سنة متصلة سبقتها بالطبع زيارات لمكتبه فى الأهرام كانت الأولى منها مطلع عام 1971 وتفضل بنشر وقائعها فى مقاله آنذاك، وكنا مجموعة من شباب الجامعة رغم أننى كنت خريجا حديثا وقتها ولكنى طالب دراسات عليا!
وطيلة السنين الأربعين لم يثمر الأستاذ ثمرة من نوع «العجر».. فكل ثماره ناضجة، وإن اختلف الناس فى تذوقها وسوغها.
وعند الأستاذ وفى حضرة كثيرين تعجب من قدرته على إنضاج الحوار حتى وإن كان من بين الحضور من تجده أكثر جرأة من غيره على خطف الكلمة والاستطراد فى العبارة وأحيانا تعمد الاستظراف، فيما الحقيقة أنه سخف يثمر عجراً، لأن صاحب الدار لا يتردد فى أن يتدخل، كما لا يتورع عن أن يعترض، وأيضا لا يبالى إذا ما لزم تغيير دفة الحديث كله وحرق دم الذى يصر على حرق الحوار على وزن «حرق المرحلة» بلغة الاصطلاحات الثورية الماركسية القديمة.
ولأننى ذكرت حكاية حرق المرحلة فلا بأس أن أحكى واقعة طريفة عندما ذهبت لإجراء تغطية ولقاءات صحفية للاقتتال اليمنى فى الثمانينيات، وذهبت والتقيت الرئيس على ناصر محمد الذى كان قد خلع من موقعه واتجه شمالا ومعه بعض معاونيه إلى صنعاء، وهناك التقيته وممن التقيتهم معه كان محافظ محافظة «المهرة» فى اليمن الجنوبى الذى أخذ يحكى عن الرفاق فى القيادة العليا ذات المنهج الماركسى اللينينى، وقال الأستاذ «عكوش» إنهم كلفوه بمنصب المحافظ، وإن المحافظة تقع على شاطئ البحر ومعظم أراضيها سنجات مالحة لا تصلح أبدا للزراعة ويعتمد سكانها على صيد السمك الذى يملحون بعضه ليكفيهم طوال العام. ثم فوجئ الأستاذ عكوش بقرار بإنشاء مزرعة نموذجية فى المهرة بتكلفة أكثر من ثلاثين مليون دولار، ولما احتج بأن الأرض لا تصلح أبدا وأن مصادر المياه العذبة شحيحة رد عليه قادته الرفاق «التزم بالقرار فإننا مصرون على حرق المراحل، والقفز عليها» ولأنه كان طريفا جدا وابن نكتة نظر لى وضحك عاليا وقال متسائلا: هل تعرف ماذا أطلقت أنا على القرار؟! واستطرد: أسميته «الجمباز الثورى»!
وصدقونى فإننى مازلت أتأمل صبر الأستاذ على وجود العجر فى حضرته!
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
ahmed elemary
العجر و البجر