ويظن أنه قد ربح الحرب، بينما الحقيقة أنه قد ربح جزءًا من معركة صغيرة تافهة كسب من ورائها غنيمة وهمية هى خضوع الحكومة لرغبته، بينما السلطة تربح الجائزة الكبرى، جائزة الاعتراف الشعبى بحق السلطة فى الوصاية والرقابة ومنع ما قد تراه متناقضا مع مصلحة الوطن وأخلاق المجتمع.. ومن هنا ينطلق أول الخيط، هذا الفيلم ممنوع، وهذا الكتاب محظور، وتلك الضحكة رقيعة لا تناسب مجتمعنا، وهذا المسلسل مرفوض، لأن به مشهد اغتصاب رجل أمن لفتاة، وهكذا وهكذا، حتى يأتوا على آخر ما فى بكرة الخيط من حرية.
قلنا ذلك بعد منع فيلم حلاوة روح، والآن نعود مجددا لنقولها بشكل مختلف بسبب بيان دار الإفتاء وشيوخ الأزهر المطالب بمنع برنامج الراقصة على قناة القاهرة والناس، قبل وبعد عرض أول حلقة من البرنامج، وبعد أن تصدى لحمل لواء المنع والحديث عن الشرف ومصر العفيفة شيخ لم يترك منبر يضعه تحت بؤرة ضوء الشهرة إلا واعتلاه على حساب الدين والوطن، بعد أن كان خطيبا لمسجد عمر مكرم فى زمن لم يكن فيه شيخا قادرا على اعتلاء منبر مسجد بهذه الأهمية دون رخصة مرور أمن الدولة.
لا السبكى يستحق الدفاع عنه، ولا هيفاء تستحق أن نقف من أجلها متظاهرين، ولا دينا ولا من معها من راقصات يستحقون الهتاف بأسمائهن، ولكنها الحرية يا سيدى، تلك المعركة القديمة بين المواطن والسلطة، المواطن الذى يأمل فى مجتمع بلا خطايا، والسلطة التى تستغل أحلامه هذه فى تمرير عبارة خبيثة تقول إن من يحكمون يعرفون أكثر، وبالتالى تجوز لهم الوصاية على اعتبار أن السبيل الوحيد لنشأة المجتمع العفيف يمر من فوق جسر امتلاك الحكومة لسلطة المنع والسماح وفق ما يراه الحكام الأوصياء.
من يظن أنه قادر على مخالفة الدستور والقوانين بحجة الحفاظ على أخلاق المجتمع، ويمنع فيلما أو برنامجا تحت شعار الحفاظ على العفة، سيؤمن ولو بعد حين بأنه قادر على منع جريدة أو فيلم ينتقد السلطة بحجة وجود صورة عارية أو مشهد غير ملائم أو فكرة هدامة بين طيات المشاهد، ووقتها لن تستطيع أن تشكك فى وصايته، لأنك سبق وأن منحتها إياه عن طيب خاطر واستقبلت ما نتج عنها من قرارات بمنتهى الترحاب والفخر.
الحديث يطول عن الحل، سيتضمن الكثير من الكلام عن احترام القوانين، وعن الاهتمام بالتعليم، وتجديد الخطاب الدينى، لنشر وعى سليم فى شوراع مصر، وسيتضمن أيضاً اهتمام الدولة بتطوير ودعم صناعة السينما لتنتج ما يغنى الناس عن الردىء، قائمة الحلول والعلاجات النافعة التى تستخدمها الدولة المتحضرة طويلة وليس من بينها المنع، أو مخالفة القانون أو الدستور الذى تنص مادته رقم 67 على أن حرية الإبداع الفنى والأدبى مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك، ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، وبناء على ما سبق، إن أردت أن تخالف المادة السابقة بحجة أن برنامج الراقصة يخدش الحياء العام بسبب الرقص الشرقى، اطلب من الحكومة أولا أن تحرق تراث مصر السينمائى الممتلئ حتى التضخم بمشاهد رقص سامية جمال وكاريوكا ونعيمة عاكف وسهير زكى وفيفى عبده ودينا، ثم اطلب من الحكومة حرق أفلام السنوات العشر الأخيرة التى تعانى من ابتذال حاد فى الرقص الشرقى تقوده الآن صافيناز على سبيل المثال.
الأولى بالإفتاء أو رجال الأزهر أو حتى رجال الحكومة أن يعالجوا قصور مؤسساتهم أولاً قبل أن يلجأوا لحل المنع تحت شعار الحفاظ على قيم المجتمع، مثلهم مثل عبدالله بدر الذين اتهموه سابقا بالتطرف والجهل لأنه طالب بمنع الأفلام وجلد إلهام شاهين والممثلات تحت شعار الحفاظ على أخلاق المجتمع أيضاً، وكأن المجتمع طفل صغير يحتاج إلى من يخبره ماذا يفعل ومتى.
الوظيفة الأساسية لرجال دار الإفتاء وشيوخ الأزهر أن يجتهدوا لتنقية خطابهم الدينى وتأهيل عقول شيوخهم ومعاهدهم الأزهرية لرفع مستوى وعى المواطن المصرى إلى تلك المرحلة التى يكون خلالها قادرا على اتخاذ قراره بالضغط على الزر المناسب فى الريموت كنترول.
الفرحون بقرار منع برنامج الراقصة ومن قبلهم الفرحون بمنع حلاوة روح هم أيضا فى مأزق أخلاقى حقيقى، لأنهم هتفوا وهللوا لحركة قمعية توافقت مع هواهم الشخصى أو جاءت مناسبة مع حساباتهم الفكرية والأخلاقية مثلهم مثل عشرات الآلاف من أبناء التيار الإسلامى الذين رأوا عبدالله بدر بطلا لمجرد أنه هتف بمنع أفلام إلهام شاهين.. ليس من حقك أن تفرح بقرارات المنع – أى منع- تحت شعار محاربة الإسفاف لأنك لن تستطيع وضع مفهوم واحد أو تعريف واضح لما هو إسفاف وما هو ليس إسفافاً، لأن ما تراه أنت إسفافا يراه الآخرون ليس كذلك، وما تراه أنت فعلا فنيا يمر وتستمتع به يراه آخرون قمة الإسفاف، وما بزمن الإخوان ببعيد حيث كانت كل الشاشات التى تغض الطرف الآن عن منع برنامج الراقصة وفيلم حلاوة روح، تردح وتتلون بالأحمرار غضبا من ممارسات الإخوان ضد الفنانين خوفا من تغيير الهوية المصرية.. هكذا صرخوا وهكذا قالوا، وهكذا الآن يصمتون لتتكشف لنا حقيقة تقول: إن أصل اللعبة ليس الحرية ولا الهوية ولا مصر ولا الفن ولا الأخلاق ولا العفة.. أصل اللعبة عند هؤلاء المصلحة!
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
حائرة
"أن ما تراه أنت إسفافا يراه الآخرون ليس كذلك،"