كانت مبادرة منع العنف التى أطلقتها الجماعة الإسلامية، وتم تفعيلها عام 2001، بمثابة الانطلاقة الفكرية الحقيقية للعبد لله، والتحرر الفكرى الكامل من أى قيد فكرى، أو العنف
لقد كانت بداية التوهج والتألق العقلى والفكرى لى بعيدًا عن الأطر التقليدية، وأن أفكر خارج الصندوق، وأن أطرح كل شىء على عقلى، وأن أحاول الاجتهاد والتجديد والتطوير والتحسين فى كل شىء، وأن أجرى مراجعة شاملة لكل أفكارى من ناحية، ولكل الأفكار التى أرى أنها كانت سببًا فى تخلف الحركة الإسلامية عن ركب الحضارة، وتقوقعها على نفسها، أو صدامها مع الدولة أو المجتمع أو غير المسلمين، وعدم جمعها بين الواجب الشرعى والواقع العملى جمعًا صحيحًا.
ذهبت مع إخوة كرام كان بعضهم سابقًا لى فى فكرة المبادرة، مثل الشيخ كرم زهدى، الذى أراد أن يكون هذا المشروع ختامًا حقيقيًا لحياته داخل الحركة الإسلامية، وقد صارحنى بأنه يريد أن يختم حياته بهذه الفكرة الشجاعة.. حاضرت الإخوة فى كل سجون مصر تقريبًا.. تحاورنا.. تناقشنا.. تعلمت منهم.. تعلموا منى.. قبلوا بعض أفكارى ورفضوا بعضها.
وبعد خروجى من السجن قلت لنفسى إن التفكير للحركة الإسلامية وحدها هو قصور كبير شاب فكرى وعقلى فى السابق، لابد أن أفكر لكل المسلمين، ثم تطور بى الأمر، وقلت إن الإسلام جاء للناس جميعًا رحيمًا بهم، وكريمًا معهم، ومحسنًا إليهم، وعطوفًا عليهم، لابد أن أفكر وأكتب لكل الناس.. المسلم وغير المسلم، الاشتراكى والليبرالى، اليسارى والرأسمالى، الطائع والعاصى، القريب والبعيد، القاصى والدانى، من يحب الإسلام ومن يكرهه، ولابد أن أكتب لجميع الملل والنحل والطوائف والأمم.. أكتب لهم عن الإسلام العظيم الذى حصرناه بعقولنا الضيقة فى أضيق الحدود، وضيقنا واسعه، وحرمنا بعض حلاله، وعسرنا يسره، وشددنا سهله.
وأنا اليوم أسوق إلى القراء بعض ما كنت أقوله لتلاميذى وإخوانى، سواء فى المحاضرات أثناء المبادرة، أو بعدها فى السجون، وقد سجلت معظم هذه الكلمات، وفى كل فترة أتأمل هذه الكلمات، وأتذكر أيامًا جميلة قضيناها، ذهبت فيها إلى كل السجون المصرية، ولى فى كل سجن من هذه السجون ذكريات وذكريات.
ويؤسفنى إننا تركنا السجون خالية فى أواخر 2005، وكانت المعاملة فيها أرقى ما تكون بعدما كانت فى التسعينيات أسوأ ما تكون، ثم ها هى تعود الآن لتمتلئ من جديد وتكتظ بساكنيها، وكأن الحركة الإسلامية هى الضيف الدائم عليها، أو أن هذه السجون لا تستطيع العيش بدونهم.
والسؤال الآن:
هل يحتاج هؤلاء السجناء لمثل هذه الكلمات الآن؟ أم ماذا؟!
المهم هذه هى بعض كلماتى الأثيرة وقتها، ولعل البعض يدرك منها مدى ما أسهمت فيه المبادرة من طرح لقضايا فكرية إسلامية جديدة ومهمة:
1 - على أهل المحبة الصادقة لله ولرسوله، صلى الله عليه وسلم، أن يدوروا مع الحق حيث دار، وأن يتخلوا عن كل رسم أو شكل ثبت لهم أنه لا يناسب واقعهم، ولا يحقق مصلحة الإسلام والمسلمين.
2 - إذا اصطدمت الحركة الإسلامية بمجتمعها المصرى الطيب، أو عاملته باستعلاء، أو ظنت أنها أكثر منه إيمانًا وحبًا للإسلام، فقدت الرصيد الاستراتيجى الدائم الذى يحميها ويدافع عنها ويقف خلفها فى كل المحن والأزمات.
3 - إن العواطف الجياشة والحماسة المتدفقة، وإن كانت صادقة، لا تضبط وحدها سيرًا، ولا تهدى سبيلًا، ولا تصلح دينًا ولا دنيا، ولابد من حسابات دقيقة منضبطة بالشرع، ومراعية للواقع، تخدم الدين ولا تضره.
4 - لا تتكبروا على الناس، خاصة من يخالفكم الرأى أو الفكر بحجة الاستعلاء بالإيمان، فهناك فرق بين الاستعلاء بالإيمان، وبين العلو بالذات والتكبر على الخلق، وبعضنا يخلط بين الأمرين، إذ إن بينهما شعرة دقيقة لا يراها قصار النظر، فالرسول، صلى الله عليه وسلم، كان مستعليًا بإيمانه، لكنه جلس على الأرض وأعطى الوسادة لعدى بن حاتم- وكان مسيحيًا- ليجلس عليها.
5 - أرجو ألا تغتر الحركة الإسلامية بالحشود الكثيرة التى تحضر المليونيات والمؤتمرات الإسلامية، فهذا يدعونا إلى الانكسار لله والتواضع للخلق، وأن نكرر ما فعله الشيخ الشعراوى حينما قام بمسح دورة مياه مسجد الجزائر الكبير عندما علم أن شوارع الجزائر العاصمة قد أغلقت من كثرة الحاضرين لمحاضرته، فلما سئل عن ذلك قال: «أتواضع لربى وأشكره.. وحتى لا يأخذنى الغرور والعجب»
6 - أحسنوا إلى الجميع، إلى المسلم وغير المسلم، الطائع والعاصى، المحسن والمسىء، ولا تغتروا بجمعكم، ولا تتباهوا على الآخرين بطاعتكم ولا تحتقروا أى إنسان حتى ولو كان عاصيًا، فمن الخير أن تبيت عاصيا ً وتصبح نادما ً.. لا أن تبيت قائما ً وتصبح معجبا ً متكبرا ً.
7 - يخلط الكثيرون بين الإسلام والفكر الإسلامى، ويظن معظم الإسلاميين وكذلك خصومهم أنهما سواء، فيعطى بعض الإسلاميين صفة العصمة لفكرهم لأنه ببساطة «إسلامى»، أى يمثل الإسلام والإسلام لا يخطئ أبدًا، ويغتاظ بعض خصومهم من بعض أفكارهم فيسيئون الظن بالإسلام نفسه.
8 - الفكر هو إعمال العقل والقيام بالأعمال الذهنية لاستنباط الأحكام، والخروج بالرؤى والتصورات الصحيحة والمناسبة للواقع، فإذا كان الذهن البشرى إسلاميًا أنتج فكرًا إسلاميًا.. وإذا كان علمانيًا أو اشتراكيًا أو ليبراليًا أنتج فكرًا علمانيًا أو اشتراكيًا أو ليبراليًا على الترتيب، وإذا كان الفكر هو عمل الذهن البشرى، فالخطأ وارد فى حقه مهما كان إخلاص صاحبه وتجرده، ومهما كان علمه وعقله.
9 - على الحركة الإسلامية وكذلك خصومها أن يدركوا جيدًا أن الحركة الإسلامية ليست هى الإسلام، وأنها ليست الممثل الحصرى عنه، لكنها جزء من منظومة العمل الواقعية بمبادئ الإسلام، أصابت فى اجتهادها وعملها، أم أخطأت.
10 - إن التفريق بين الإسلام والحركة الإسلامية سيفيد الإسلام والإسلاميين والليبراليين والاشتراكيين والوطن أيضًا.
11 - نحن دعاة لا قضاة.. فمهمتك الدعوة وليس الحكم على الناس، فليس من مهمتك ولا من سلطتك أن تقول هذا كافر، وهذا فاسق، وهذا فاجر، وهذا عدو لله ورسوله.. وما شابه ذلك من أحكام.
12 - إن مهمة الحركة الإسلامية ودعاتها ليست إخراج الناس من الدين بتكفيرهم أو تفسيقهم أو تبديعهم، لكن مهمتها إدخال الناس فى حظيرة الدين وهدايتهم إلى الحق، وليست مهمتهم الحكم على الناس، ولم ولن تكون هذه يومًا مهمتهم.
13 - نحن دعاة لا قساة.. فالداعية لا يقابل السيئة بمثلها، لكنه يقابلها بالحسنى، ولا يواجه الشر بمثله، وقد جربت الحركة الإسلامية مرارًا مواجهة الشر بالشر والسيئة بالسيئة والعدوان بالعدوان، فما زادها ذلك إلا رهقًا وعنتًا وأدخلها إلى غياهب السجون، وصادر دعوتها، ونفر الغالبية العظمى من الشعب منها.
14 - على الحركة الإسلامية أن تواجه الشوكة بالوردة، والعدوان بالإحسان، والمنكر بالمعروف، وأن تجرب تلك الآلية العظيمة فى كسب الأصدقاء، وتحييد الأعداء وتحويلهم إلى أولياء، كما ذكرها القرآن العظيم فى قوله تعالى: «وَلَا تستوى الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بالتى هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ».
15 - الدعوة إلى الله منظومة رائعة تتكون من أمرين لا ثالث لهما، هما «الصدع بالحق»، و«الرحمة بالخلق».. فمن صدع بالحق، ولم يرحم أو يلاطف الخلق، فهو ليس بداعية على التحقيق، ومن رحم الخلق، ولم يصدع بالحق، أو داهن وجامل الآخرين فهو ليس بداعية أيضًا، فالداعية الذى لا يبلغ رسالة الله حقًا أو يحرف فيها أو يغير من طبيعتها لم يدرك المعنى الحقيقى للدعوة.
16 - الدعوة هى رسالة حب للناس، وأى داعية يكره الناس ولا يحبهم، أو لا يرى إلا السوء فى الآخرين، لا يصلح كداعية، وإذا لم يحب الداعية الناس لم يحبه الناس، وإذا لم يقبل عليهم لم يقبلوا عليه، وإذا لم يعطف عليهم لم ينصروه، وقد كتبت رسالة قديمة فى الدعوة أسميتها «طبطب على الناس» لأنها تعنى الدعوة فى مضمونها الأسمى.
17 - السنن الكونية لا تحابى أحدًا، ولا تجامل أحدًا حتى لو كان مسلمًا أو مؤمنًا، فإذا زرع المسلم فى السباخ ولم يخرج له ثمر، وإذا واجه الدبابة بالمسدس فهزم، فعليه أن يلوم نفسه ولا يلوم ربه، ولا يستثنى من قاعدة السنن الكونية إلا ما أراده الله معجزة لنبى أو كرامة لولى.. وكلاهما لا تنبنى عليه أحكام.
18 - الأمة التى تعرض عن الأسباب ولا تأخذ بها هى أمة من العاطلين والكسالى التى لا تقوم على أكتافها حضارة.. ولا تتقدم بهم أمة.. فالأخذ بالأسباب هو فطرة الله التى فطر الناس عليها.
19 - لكل شىء زكاة.. فالمال له زكاة إذا بلغ النصاب، أما زكاة القدرة فهى العفو والصفح والتسامح وخفض الجناح، وعدم الاستطالة على الآخرين، والإحسان إلى الخلق جميعًا، وعدم التعالى على من يخالفك الرأى أو الفكر أو الاعتقاد.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
سيد عوني
قول يا شيخ قول
جميل يا دكتور .. أنت رجل عظيم