يبدو أننا لابد أن نتأقلم بأننا سنواجه هذا النوع من الموت الأيام القادمة، موت القهر الذى تختنق فيه الـ «آه» بين الضلوع وفى الحنجرة، فلا يستطيع الموجوع الصراخ بها، فتتحول الـ «آه» من وسيلة للتفريج عن الكرب إلى أداة تقتل المكروب.
وهنا لا أتحدث عن الموت قهرا من إهمال علاجى أو إهمال مؤسسى تذهب فيه أرواح الأبرياء، فهذا النوع من الموت اعتدناه منذ سنوات طويلة، فى ظل أنظمة فاسدة جاهلة مستعبدة لشعبها.
ولكن أتحدث هنا عن شباب فى عمر الورود تسرق أحلى أيام عمرهم خلف القضبان بدون ذنب، يحاكمون بانتهاك قانون غير دستورى، يواجهون أحكاما مغلظة خارج حدود المنطق والعقل، يمرض أبوهم ولا يستطيعون احتضانه، يموت أبوهم حزنا وقهرا دون أن يودعوه حيا، فنحمد الله أنهم ودعوه إلى قبره وكأن هناك عقلا حكيما فى ظل هذا الكبر أمر بالسماح لهم بدفن والدهم.
الأب الذى عاش مناضلا ومحاميا للغلابة ونصيرا وداعما لكل قيم الحريات باختلاف أيديولوجياتها، من يحمل هذه القيم أب جعله الله سببا فى حرية كثير من المظلومين، ولكنه يموت وهو محامٍ مدافع عن الحريات وأبناؤه فلذة كبده فى غيابات السجون، يا لها من سخرية القدر. سلك كل الطرق من أجل حريتهم ولم يتمكن من الدفاع عنهم أو رؤيتهم حتى لحظة فراقه، يدفنون والدهم ويعودون إلى سجنهم لا يجدون حضن الأم والأخت الذى هو بالنسبة لهم فى هذا الظرف وهذا التوقيت العزاء الوحيد، والملجأ الآمن المتبقى لهم، وخصوصا لفتاة تعد فى مرحلة الطفولة سنا وملامح.
أعلم عن تجربة مريرة ماذا يعنى فقدان الأب؟ فقدان السند والظهر؟ ولكن كنت بين أحضان أمى وأخى وأختى «أدعو الله أن يحفظهم لى» فكانوا بالنسبة لى كل شىء فى هذه اللحظات، فكيف يحرم هؤلاء الشباب من كل ذلك فى نفس اليوم، تلتقى الأحضان فقط عند القبور ثم يفترق الأخ والأخت إلى سجون القهر، تاركين الأم والأخت يعتصر قلباهما بين الفراقين، فراق ما بعده لقاء، وهو فراق الأب والزوج، وفراق الأخ والأخت والابن الذى يتخلله لقاء قاسٍ وموجع بين أركان زنزانة أو بين أسوار قيود.
سلكنا كل الطرق لتعديل هذا القانون الباطل الذى يتعارض مع دستور وافق عليه الشعب بنسبة %98 من تظلمات والتماسات وقضايا تنظر وطلبات للعفو، ولكن لا حياة لمن تنادى، لماذا كل هذا الكبر؟! لماذا تبقون على المجلس القومى لحقوق الإنسان وفى نفس الوقت تتجاهلون طلبه منكم الذى طلبه مرارا وتكرارا، من أجل تعديل هذا القانون، وإعادة محاكمة الشباب، والنظر مرة أخرى فى أوضاعهم، كل الشباب المحكوم عليهم احتياطيا أو صدر ضدهم أحكام بسبب هذا القانون! لماذا ترفضون؟ لماذا تتجاهلون؟ لا نريد عفوا ولكننا نريد عدلا أيها السادة!
الغضب يتفاقم ويفور ويتقارب من درجة الغليان، لماذا تزرعون فى نفوس هذا الشباب كل هذا الغضب، لمصلحة من؟ أجيبونا لمصلحة من؟ الشباب يضرب عن الطعام حتى الموت تحت شعار «جبنا آخرنا»! ألم تروا الغضب الممزوج بالقهر والعجز والحيرة والإحباط فى عيون شباب كل جريمتهم أنهم حلموا بوطن أفضل، يجوز، بل نعم وبكل تأكيد نختلف معهم من حيث الطريقة والآلية والأسلوب والألفاظ والأداء، ولكن لا يكون أبدا عقابهم بهذه القسوة المنزوعة من الإنسانية! من أجل اختلاف أو حتى من أجل خلاف!
وتذكروا أنكم أفرجتم عن مرتكبى جرائم بشعة من نظامين سابقين «مبارك والإخوان»، لا تقارن أبدا بما فعله هؤلاء الشباب لو فرضنا أنهم أخطأوا!
فهل تعتقدون أن هؤلاء الشباب هم الآن يمثلون خطرا على الدولة ويهددون الأمن العام ويضرون هيبة الدولة! لا أعتقد، فهناك من هم أخطر يضعون هيبة الدولة فى التراب، ويجعلون العالم يسخر منا، ويبثون سمومهم كل ليلة على شاشات الإعلام، ويقتلون وعى شعب وأجيال كاملة، ويحرضون على الفتن والانقسام والتخوين دون أدنى دليل، وينتهكون الأعراض والحرمات، وبرغم ذلك نجدهم متروكين يستمرون فى جرائمهم دون أدنى عقاب، بل على العكس التكريم يكون من نصيبهم! وسيكون لهم ضحايا قريبا يموتون قهرا من ظلم وتشويه للسمعة وافتراء وتذكروا كلمتى هذه لكم!
أتعلمون أين أغلبية الشباب الآن الذى شارك فى ثورتين من أجل وطن أفضل؟ فى السجون، خارج البلاد أو يسلكون كل الطرق ليغادورا البلاد، يجلسون على الكنبة ليشاهدوا وهم يعتصر قلبهم حزنا. إذا كان هذا هو هدفكم فاعلموا أنكم نجحتم، ولكن تذكروا أن هناك أجيالا جديدة قادمة ورثت قيم الحرية والنضال من أجيال دفعت الكثير من أجل هذه القيم! وإذا كان ذلك ليس هدفكم وهو خطأ جسيم نتيجة لسياسات خاطئة ومتخبطة أدت إلى ذلك، فاعلموا أن الوقت ما زال متاحا لتمدوا يدكم وتطلقوا سراح هذا الجيل، وتعطوا مثالا لأجيال قادمة أكثر حرية وأطول نفسا.
اللهم بلغت اللهم فاشهد.