أتعجب كثيرًا من أولئك الذين يتباكون على أخلاق المصريين، فينصبوا المآتم ويلعنوا الزمن الحالى لأننا فقدنا فيه الأخلاق، وهجرنا فيه المُثل، وقتلنا الضمير!
العجب ليس لأنهم يلعنون الزمن، وإنما لأنهم لا يدركون أن لا أخلاق مع الزحام، ولا مثل عليا مع تكدس البشر فى مساحات جغرافية ضيقة، فكل الدراسات الاجتماعية والنفسية تؤكد أن الإنسان الفرد فى حاجة إلى مساحة جغرافية معقولة لا يشاركه فيها أحد ليتحرك بحرية، وإلا فقد أعصابه وارتد إلى سيرته الوحشية الأولى التى كنا نشبه فيها الحيوانات، فلا أخلاق ولا ضمير!
الزحام أكثر لعنة من الفقر، فكيف تطلب من إنسان يستقل المترو أو الأتوبيس فيجد نفسه محشورًا بين كتل بشرية أخرى.. كيف تطلب منه أن يتمتع بسلوك طيب؟ أو يتصرف برقى؟ وكيف تعاتبه إذا انقض بشكل همجى على أول مقعد خال؟
حتى الذين يمتلكون سيارات خاصة، يلقى الواحد منهم بالأخلاق من النافذة إذا انحشرت سيارته بين علب الحديد التى تتراكم فى الشوارع الرئيسية والجانبية، فالزحام يفجر أسوأ غرائز البشر، والزحام يدفع كل امرئ إلى الذود عن جسده وذاته بأية وسيلة، حتى لو اضطر إلى السير فوق أجساد من حوله!
كثير منا يظن أن الفقر الذى يمسك بخناق الغالبية العظمى من المصريين هو السبب فى ندرة الأخلاق أو غيابها، وهو قول خاطئ، إذ أننا منذ فجر التاريخ نصارع الفقر المدقع بسبب جشع حكامنا وطمعهم، ومع ذلك لم تصل أخلاقنا إلى هذا المستوى من الانحطاط والتردى، الأمر الذى يؤكد أن السبب الرئيسى الذى أدى إلى تدهور منظومة الأخلاق لدينا يكمن فى الزحام، لذا يتفاقم سلوكنا الشائن فى القاهرة والإسكندرية بشكل فاضح وفادح لأنهما أكثر مدينتين مكدستين بالبشر!
ليس عندى ذرة شك واحدة فى أننا لن نستعيد أخلاقنا الضائعة إلا إذا وجدنا الوسيلة الناجعة التى تقضى على كابوس الزحام.. هذا الزحام الذى استشرى نتيجة سياسات خاطئة اقترفها حكامنا السابقون، فتركوا البشر يتزايدون دون أن يوفروا لهم المدن الجديدة التى تستوعب هذه الزيادة.
رجاء.. تذكر.. لا وجود للأخلاق مع الزحام!