(كانت جنازته بشارةً.. فقد اتخذت نفس المسار الذى اتخذته مسيرةٌ مؤيدةٌ لأبوالعز الحريرى فى الانتخابات فى نفس الساعة ونفس اليوم 4 سبتمبر ولكن من 30 سنة بالضبط فى 1984.. نفس المسيرة ولكن مع اختلاف الأشخاص لاختلاف الأجيال.. نفس المسيرة ولكن باختلاف الهتاف الذى أصبح لا إله إلا الله أبوالعز حبيب الله.. وهى بشاراتٌ ربّانيةٌ بأن أبوالعز فى الجنّة بإذن الله.. وأن الشعب مستمرٌ فى نضاله لانتزاع حقوقه جيلاً بعد جيل).. هكذا قالت لنا العظيمة رجاء الحضرى أرملة العظيم أبوالعز الحريرى ونحن (عبدالجليل مصطفى وأحمد بهاء الدين شعبان وكريم السقا وأنا) نقدم واجب العزاء لها ولأبنائها فى المنزل قبل أن نتوجه لتلّقى العزاء مع أحبابه فى مسجد القائد إبراهيم.. ما كان فى استطاعة زوجةٍ أن تحتمل مسيرة أبوالعز المرهِقة ما لم تكن بنفس وطنيته وصلابته.. وما كان لأبوالعز أن يصمد فى كفاحه ما لم تكن رفيقته تشاركه نفس الإيمان ونفس الأحلام التى احتضنت أحلام ملايين المطحونين.. أبشرى يا سيدتى بهذه البشارة.. فالشعب الذى أنجب أبوالعز الحريرى لن يتوقف عن النضال والعطاء.. وثقى بأن أبوالعز بإذن الله فى الجنة.. فالحمد لله أن مفاتيح الجنة ليست بيدِ الشامتين المتنطعين قُساة القلوب.. وإنما فى يده سبحانه الذى يُحب من يعبد الله فى عباده الفقراء ويجهر بقولة الحق فى وجه إمام جائر.
الآن يرتاح المحارب الشريف فى رحاب ربه.. وقد تعجّبتُ من صيغة الخبر الذى جاب مصر مساء الأربعاء (تُوفّى إلى رحمة الله أبوالعز على حسن الحريرى المرشح الرئاسى السابق بعد صراع مع المرض، عن عمرٍ يناهز 68 عاما، بمستشفى مصطفى كامل للقوات المسلحة بالإسكندرية).. فأبوالعز لا يمكن اختصاره فى أنه مرشحٌ رئاسىٌ سابق.. أو أنه القيادى بحزب التحالف الشعبى الاشتراكى.. أو أنه البرلمانى السابق.. أبوالعز فى وجدان مصر التى أحبّها وأحبّته شئٌ أكبر كثيرا من كل هذه الصفات الباردة.. هو عُمْرٌ كاملٌ فى نُصرة الفقراء والمظلومين عُمالاً وفلاحين.. عُمْرٌ كاملٌ فى محاربة الفاسدين والمفسدين.. هو ضميرُ مصر الذى لم يتلوّن ولم يُهادن ولم يرتزق.. هو العامل الذى لم يسِل لعابُه لمنصب.. ولم يقبض ثمناً فى يومٍ من الأيام، وإنما قبض على وطنيته كالقابض على الجمر.. هو صوتُ المصريين الصريح الواضح الذى لم يتلعثم أو يتردد أو يخفت تحت قبة البرلمان أو خارجه.. كان صادقاً لا مُدّعياً عندما قال عن نفسه إنه (يضع نفسه فى المرتبة الثانية بعد المصلحة العامة).. هذا الرجل عاش لَنَا.
بالنسبة لى تنقسم علاقتى بأبوالعز الحريرى إلى مرحلتين.. أُولاهما قبل بلاغى عن فساد صفقة عمر أفندى وانخراطى فى العمل العام.. كُنتُ طالباً فى الكلية الفنية العسكرية فى السبعينيات عندما بدأ الأصدقاء الإسكندرانية يتحدثون عن ذلك العامل الشاب الوسيم الذى يقود العمال فى شركته وغيرها فى وجه هجمة الطبقة الجديدة التى بدأت تتشكل (ظلّ وسيماً وهو على مشارف السبعين).. وطُرد من عمله بالشركة الأهلية للغزل والنسيج عام 1975 بسبب مواقفه.. ثم كانت مفاجأته الكبرى بترشحه على مقعد العمال بدائرة كرموز التى ترشّح على مقعد الفئات بها ممدوح سالم رئيس وزراء مصر.. وفى وقتٍ كان التزوير فيه من سُنن الانتخابات وكانت يد الأمن السياسى (طايلة)، استقتل أنصاره وفى القلب منهم العمال وفاز أبوالعز ليدخل برلمان 1976 كأصغر نائبٍ وقتها (30 عاماً بالكاد).. وظل يناضل داخل البرلمان وخارجه إلى أن قام السادات بحلّ البرلمان ليتخلص منه وحوالى عشرين معارضا لاتفاقية السلام مع إسرائيل.. وتوّج السادات اعتقالاته التسعة فى عهده باعتقاله فى اعتقالات سبتمبر 1981 الشهيرة.
صار أبوالعز الحريرى بالنسبة لى رويدا رويدا واحدا من تلك الرموز التاريخية فى سماء العمل الوطنى التى يتمنى المرء لو ظفر منهم بصورة أو سلام.. مثله فى ذلك مثل أحمد فؤاد نجم وأحمد بهاء الدين شعبان.. ولم أدرِ أن الله سيُنعم علىَّ بما هو أكثرُ من الصورة والسلام.. الصُحبة والصداقة.. وهى المرحلةُ الثانية فى علاقتى بأبوالعز الحريرى.
شرّفنى أبوالعز بحضور ندوةٍ للتضامن معى بنقابة الصحفيين.. كان فيها كعادته هو المتحدث النجم المُجلجل.. ذو الأفكار المرتّبة والمُدّعمة بالأرقام.. المباشرُ بلا توقُف ولا إطالة.. ودعانى للقائه فى اليوم التالى فى جروبى أمام حزب التجمع.. حزبه الذى كان من أوائل مؤسسيه.. فى هذا اللقاء الطويل تعرّفتُ عليه أكثر واكتشفتُ أن الوصف المناسب له هو (المكافح السياسى).. لم أرَ مثله يؤمن بالعمل السياسى لتحقيق الأهداف النضالية.. لم يحمل طوبةً ولا شومةً (للأسف فإن عددا من أدعياء التدين الزائف اعتدوا عليه وعلى زوجته الفاضلة).. لم تُثنه يدُ النظام (أى نظام) الضاغطة عن السعى المستمر لدخول البرلمان، فإذا دخل تحت القبة صال وجال واستخدم حقه الدستورى كنائبٍ فى فضح الفساد ومحاربته.. كان أبوالعز مثل جهاز الاستشعار الذى يلتقط روائح الفساد قبل أن تفوح.. فكان من أوائل الذين رصدوا فساد شلة التوريث ودخل معركةً كبيرةً فى وجه احتكار أحمد عز وفساد الخصخصة (من المفارقات اللافتة إلى أنه فى الوقت الذى كان فيه أبوالعز يخرج من دنيانا، كان أحمد عز يدخل إليها مرةً أخرى!).
كان من أوائل مؤسسى حزب التجمع ودعانى فى هذا اللقاء للانضمام إليه لأن صاحب القضية لا بد أن يُعبّر عنها من خلال منبرٍ سياسىٍ.. كان مؤمناً بما يقول وقلتُ له إن رأيه صائبٌ على وجه العموم ولكنه لا ينطبق على حالتى، إذ إننى لم أبدأ سياسياً مثله وإنما أصبحتُ فجأةً رأس حربةً فى الحرب ضد الخصخصة والتف حولى الجميع من كل الأحزاب باعتبارها قضيةٌ عامة، فإذا انضممتُ إلى حزبٍ مُعيّنٍ سينفّضُ عنّى الباقون.. المفارقةُ أن حزب التجمع فصَلَه لاحقا فخسر الحزبُ رُكنا تاريخيا جاذبا من أركانه، ولم يخسر أبوالعز شيئا ولكن الطعنة كانت غائرة.
فيما بعد كان هاتفى المحمول يرّنُ فى أى وقتٍ نهارا أو ليلا ويُنيره اسم أبوالعز الحريرى فأتهلل وأستقبل المكالمة ببدايتها الدائمة (صباح الخير يا زعيم.. خُد عندك..) ثم يدخل فى الموضوع مباشرةً دون مقدماتٍ.. وكل موضوعاته عن مصر ولمصر.
ازدانت به الجمعية الوطنية للتغيير وكان أحد العناصر المُقرِبة بين الأطراف المتنافرة فى الجمعية وحافظ على علاقاتٍ إنسانيةٍ مع الجميع بمن فيهم ممثلو الإخوان فى الجمعية رغم خلافه المبدئى مع فكرة استخدام الدين فى السياسة.. إلى أن سقط مبارك.. واستمرّ يصدعُ بغضبه وانتقاده لأى اعوجاجٍ فى كل المراحل التى جاءت بعد ذلك.
قبل وفاته بيومين اتصلتُ به فردّت زوجته الفاضلة وقالت لى إن أبوالعز الآن مع ربنا.. قلتُ فى نفسى لقد كان دائما مع ربنا بحق، لأنه كان دائما نصير عباده الضعفاء فى كل مكان.. وكان شريفا نظيفا.. فاللهم ارحم أبا العز وعوّضه عن شقائه جنةً ونعيماً وأجزه عن مصر خير الجزاء.. وأكرِم نُزُلَه مع الشهداء والصديقين والنبيين وحَسُنَ أولئك رفيقا.. يا رب.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
يحيى حسين عبد الهادى
تصويب من كاتب المقال