فى قريتنا نقول للجد «سيدى» دون تشديد للياء الأولى، ونقول للجدة «ستى»، أى سيدتى، وفى جيل سابق كانوا يقولون لها «حبيبة»، وكثيرا ما حدثنى أبى رحمة الله عليه عن «حبيبته» مبروكة أم ستى حليمة والدته!
وبمناسبة أن اليوم هو التاسع من سبتمبر 2014، والذى فيه يكون قد مر على إصدار قانون الإصلاح الزراعى الأول اثنان وستون عاما بالتمام، فإننى أذكر تلك الجلسة التى عكمت فيها الكلام ولم أسمح لأحد أن يفلفص عكمتى له، وهى عادة صارت معروفة لكل من عرفونى عن قرب.
كنا نجلس فى الدوار وصينية الشاى تدور بعد الغداء الممتع، وانفتح الكلام فى السياسة، ومن ثم عبدالناصر، ومن ثم الجدلية الكبرى والحدية التى كثيرا ما لا تحتمل سوى النقيضين: هل خربها.. أم عمرها وزادها تعميرا؟!
كنت أدخن روثمان من نوع جديد آنذاك «سيجارة طويلة جدا أطول من السيجارة السوبر بعدة سنتيمترات، وعندما أخرجت العلبة وبدأت أعزم على الجالسين ووصلت إلى خالى حمودة الجمال فأمسك السيجارة وقال بصوت مسموع: «يا داهية سودة.. دى أطول من ناف المحرات!!»
وكنت أترافع بطريقتى عن ثورة يوليو وعبدالناصر، وعلى طرف الكنبة التى على يمين الداخل إلى المندرة الكبيرة كان يجلس خالى عبدالوكيل، الذى أظنه تجاوز الثمانين الآن، رغم أن شباب العيلة دائما ما يرددون أن «الفيزا» بتاعة خالى عبدالوكيل مقطوعة له منذ عدة سنين ولا يريد أن يسافر، فيما الأصغر ومنهم بعض عياله قد سافروا!!.
ويقصدون طبعا الانتقال إلى العالم الآخر عبر ترب «مقابر» أبو العبد القابعة منذ مئات السنين عند مدخل القرية!
كان الحاج عبدالوكيل يسحب نفسًا من السيجارة الطويلة وفجأة صاح بطريقته، رغم كلامه المرتفع أصلا: يا أستاذ.. يا فندى.. يا ابن أختى، وهو ابن سيدى عبدالمجيد عم أمى لزم: أنت تاعب نفسك ليه، وقاعد «تحرث وتثنى وتثلت» وهى مراحل حراثة الأرض لإعدادها للزراعة أنا حريحك سوف أريحك واسمع منى اللى أنا شفته بعينى إن شا الله تلحق الثانية إذا كنت باكذب.. وهو لديه عين معطلة عن البصر!
كنا أيام الفقر نروحوا الترحيلة، ومرة رحنا المنوفية لجمع القطن فى أرض عيلة الفقى.. وكنا لأجل زيادة الأجرة ناخدوا خط ونص، ويقصد أن الرجل يجنى القطن من شجيرات الخط الذى بدأه، ويجنى الجزء الملاصق لخطه من الخط المجاور، ومن يليه من الأجراء يجنى الجزء الآخر من الخط، إضافة للخط الأصلى، حيث الأرض المزروعة قطنا تقسم إلى خطوط طويلة متجاورة.
واستطرد الخال: وكان معانا نسوان ياما كثير ومنهم واحدة حبلة حبلى وفى يوم جالها الطلق فراحت ومعها «امرأتان» لتلد فى ظل شجر التيل المزروع على «التركيب» أى القناة التى تشق أرض القطن وفجأة وصل الباشا راكب الحصان ولقى الخط بتاع «المرا» دى فاضى وسأل فين اللى بيجمع هنا؟ وردينا عليه بأنها بتولد هناك تحت التيلة!، وراح لها، وبعزم قوته ضرب المولود فى بطنه برجله فطلعت مصارينه!
واستطرد خالى عبدالوكيل: «خذ دى عندك كمان.. فيه ناس من اللى قاعدين معانا هنا فاكرين لما كنا نروحوا علشان نروى أرضنا اللى فى حوض جريد، وكان بتوع الرى يهجموا علينا ويحلوا البهائم من الساقية وياخدوا عدة الساقية ويرموها فى الترعة الكبيرة علشان المياه كلها لازم تروح للأرض الخاصة الملكية فى أدفينا وسخا، وإحنا نجرى ورا عدة الساقية لغاية ما نوصل عند قناطر الصافية، قرية تبعد عن قريتنا بحوالى عشرة كيلو مترات شمالا التى تحجز الحاجة بتاعتنا.. يعنى زرعنا يموت علشان زرع الملك يعيش.. علشان كده يا ابن أختى أنا وفلان وفلان وفلان, وعدّد أسماء أخرى نذهب كل سنة لقراءة الفاتحة على تربة مقبرة جمال عبدالناصر اللى أخد تار الولية وابنها من الفقى، وأخد تارنا وتار زرعنا من الخاصة الملكية».. ثم سألنى متحفزا لبعض السامعين: «أحكى لك كمان كانوا بيعملوا إيه فينا لحد ما جه جمال عبدالناصر وعمل الإصلاح الزراعى؟!» وقلت كفاية، ومنذ تلك الجلسة قبل سنين طويلة، وأنا أقرر: «خلاص لازم أروح البلد علشان أسجل مع خالى عبدالوكيل حكاياته وذكرياته»، وتمضى السنون ولم أسجل ما أردت تسجيله، وبين كل حين وآخر أسأل بعض شباب العيلة: خالى عبدالوكيل عايش وللا مات؟ وأحيانا أسأل بطريقة أكثر تهذيبا «هو خالى عبدالوكيل استخدم الفيزا ولا لسه»، ويأتينى الجواب: «لسه.. لازم تيجى علشان بيسأل عليك وبيشوفك فى التليفزيون»! اليوم 9 سبتمبر أقول لخالى عبدالوكيل الوحيد المتبقى من الأخوال والأعمام المباشرين وغير المباشرين، والذى تجاوز الثمانين: «كل سنة وأنت وكل الذين رفعوا رؤوسهم بثورة يوليو والإصلاح الزراعى وارتوت أراضيهم بالسد العالى طيبين».