لا يحتاج مبدعنا العظيم الروائى بهاء طاهر إلى مناسبة كى أكتب عنه، ولم تكن مناسبة بلوغه الثمانين عامًا قبل أيام- متعه الله بالصحة والعمر المديد- بمثابة تذكير، فحضوره الطاغى فى مشهد الرواية العربية ومعاركنا الوطنية يحرضنى على الكتابة عنه كل وقت.
هو الروائى الذى يقربنى من خلال أبطال رواياته إلى سر الغامض المجهول الذى يؤرقنى، ولا أستطيع الإمساك به، فى كل رواياته التى قرأتها جميعها أكثر من مرة أحلق مع أبطالها الحالمين، أعيش معهم توهجهم، ثم تخفت الروح حين تضيع أحلامهم، فتتوالى حكايات الانكسار التى تفرض أسئلة: لماذا حلمنا؟، لماذا ضاع الحلم؟، ماذا كسبنا؟، ماذا خسرنا؟، وتتلاحم الأسئلة لتعطى تشريحًا نفسيًا واجتماعيًا وسياسيًا لأبطاله وواقعهم، ويبلغ تألق بهاء فى الحكى عن هؤلاء إلى الحد الذى نتأكد أن أبطاله أنا وأنت، هم التاريخ الذى يقول هؤلاء روايته كما عاشوه بهزائمه وانتصاراته.
يكتب بهاء طاهر عن أحلامنا، عن هزيمتنا، عن انكسارنا، عن نفسيتنا المتعبة، عن حبنا الضائع، عن الوطن المسروق، عن البلاد الحبلى بالآمال، عن ألم إجهاض هذه الآمال، يكتب بلغة شاعرية حزينة، لكنه يؤمن بمقولة الأديب الروسى العظيم تشيكوف: «عندما أكتب عن أشياء محزنة فأنا لا أدعوكم للبكاء، إنما أدعوكم إلى التفكير فى السبب، أو الأسباب التى دفعت هذه الشخصيات إلى أن تصبح على ما هى عليه».
تتجلى براعة بهاء طاهر فى الإمساك باللحظة التاريخية التى تدور فيها رواياته، لكنه لا يقدمها كسرد تاريخى، إنما بوعى روائى مؤمن بأن «التاريخ هو اللحظة الحالية»، أى أن هذه اللحظات مازالت موجودة، فما دامت لم تنتصر كل القيم النبيلة والأهداف الوطنية العظيمة يبقى ما ناضل من أجله أجدادنا وآباؤنا حاضرًا، ولما سألته عن ذلك منذ سنوات وبعد روايته الرائعة «الحب فى المنفى» قال: «حين كتبت عن التاريخ المصرى القديم فى «أنا الملك جئت» أتصور أننى كتبت عن قضية معاصرة جدًا، فقضية إخناتون والكهنة الذين انقلبوا عليه تشغلنى كثيرًا، وليس صحيحًا أننى حاولت من خلال إخناتون الإسقاط على عبدالناصر والسادات، ومخطئ من يقرأ العمل بهذا المعنى، ولما كتبت عن إيزيس فى «قالت ضحى» كتبت عنها باعتبارها لحظة معاصرة، فالتاريخ هو امتداد معاصر».
يتعامل بهاء طاهر مع التاريخ بالبحث والتوقف عند اللحظات التى تركت بصمتها على حياتنا المعاصرة، وتقودك قراءة رواياته إلى حقيقة أنه يعرف تاريخ مصر بما فيه من آلام وآمال، ولأن مصر هى الدولة الأنسب فى العالم التى لا يموت التاريخ فيها، سنجد حكايته باقية وحية. فى روايتيه «الحب فى المنفى» و«واحة الغروب» تبدو اللحظة التاريخية للروايتين واحدة رغم اختلاف الزمن.. «الحب فى المنفى» تلتقط جريمة مذبحة «صبرا وشاتيلا» التى وقعت ضد الفلسطينيين فى لبنان خلال حصار إسرائيل لبيروت عام 1981، ومن خلال الحدث يعود بهاء إلى حكاية الجيل الذى حلم مع جمال عبدالناصر ثم انكسر حلمه، أما «واحة الغروب» فتحكى عن الجيل الذى حلم مع الثورة العرابية، وانكسر حلمه أيضًا.. وغدا نستكمل.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة