دائمًا أشكر الله حين أراه مقبلًا علىّ فى المقهى، حاملًا صحفه القديمة، أعرف أنه سيأتى يوم لا يجد أى منا الآخر، لكن حتى يريد الله ذلك فأنا أشكره لأنه دائمًا يظهر فى وقت لم أعد قادرًا فيه على التفكير فيما حولى، لا الرضا به ولا السخط عليه، واليوم بعد أن جلس جوارى قال ضاحكًا: جاء زمن السحلب.
ضحكت وطلبت له «سحلب»، فقال: قرأت خبرًا غريبًا فى صحف عام 1942.
- أكيد يكون غريبا.. الزمن تغير.
سكت قليلا وقال: مواطن سكندرى كان يعبر الطريق فى محطة الرمل، وكانت سيارة المحافظ تمر فاصطدمت به، كانت الصدمة بسيطة لم تستدع علاجًا، لكن المواطن رفع قضية فى المحكمة ضد المحافظ.
- كان عليهم أن يفسحوا الطريق للموكب.
- لم يكن هناك موكب، كان المحافظ يقود السيارة بنفسه.
- وماذا حدث بعد أن تم رفع القضية.
- بعد ثلاثة أشهر تم تغيير المحافظ بشكل عادى، وليس بسبب الحادث، فتنازل المواطن عن قضيته.
- هل استراح بتغيير المحافظ؟
- لا، لم يكن ذلك فى حسبانه، قال إنه لم يرفع القضية على المحافظ كشخص، لكنها كانت على منصبه، أما وقد ترك المنصب فقد سامحه.
سكت، قلت أكيد صديق عمرى ازداد به خرف السنين، لكنه قال: كثيرًا ما أقرأ أخبارًا تتسبب فى بكائى، مثل خبر انتخاب رئيس الحى من ملاك العمارات.
- هل كان رؤساء الأحياء منتخبين؟
- من ملاك العمارات والبيوت، هل تعرف معنى ذلك؟
- لا.
- معناه أنه لا يستطيع أن يحابى مالكًا على مالك، كانوا يعطون الملاك الجدد رسومات لشكل البيوت يلتزمون بها، لم يكن يسمح لشخص بتجاوز الارتفاع المسموح، الآن رؤساء الأحياء لا يفعلون ذلك، والدولة قدمت قوانين غريبة للمصالحة، أفهم أن يتم التصالح فى دور أو حتى اثنين، لكن فى الشوارع الضيقة عمارات وصلت أربعة عشر دورًا.
- بصراحة لا يستطيع أحد هدمها لأنها تكون قد تم تسكينها، وما ذنب الناس؟
- طبعا، لكن العمارة لا تظهر فى يوم أو اثنين، من الذى يتركها حتى تنتهى، المفروض فيه مفتشين ومهندسين تمر للمواقبة؟
كان الجرسون قد وضع السحلب أمامه.. قلت: اشرب السحلب!
بدأ يشرب السحلب على مهل ثم قال: البناء ثقافة، والطرق ثقافة، والحدائق ثقافة، وهذه مشكلة الثقافة عندنا، الكل يتحدث عن مشكلة الثقافة فى نشر الكتب، وعمل المسرحيات والأفلام، وغير ذلك مما لدينا قصور شديد فيه، أقصد فيما تفعله الدولة، لا أحد يفهم أن للثقافة وجهين، وجه روحى وهو الكتب والفنون، ومادى وهو ما أقول.
ابتسمت وقلت: يبدو أننى أجلس مع عالم أنثروبولوجى اليوم.
- صدقنى، الثقافة المادية هى الوجه الآخر للثقافة وهى الأهم، القطاع الخاص يمكن أن يصنع الأفلام والمسرحيات وينشر الكتب، وهو يفعل ذلك، وإن قابل بعض الصعوبات فى السينما مثلًا فلها حلول، لكن القطاع الخاص لا يستطيع أن يحدد شكل الشوارع ولا الطرق، ولا نسبة الحدائق فى البلاد، وبالطبع ولا أشكال البيوت والعمارات.
سكت، وسكت هو وعاد يحتسى السحلب.. كلامه جديد اليوم، لكنه مهم، صحيح، من ينظر إلى شكل المبانى زمان يدرك كيف كانت الثقافة، قال: لم تكن هناك لا وزارة ثقافة ولا إعلام، كل ذلك كان من إنتاج الناس العاديين، ورغم ذلك كانت لدينا صحف رائعة ومجلات أروع، هل تعرف عدد مجلات المرأة التى كانت فى مصر مع بداية القرن العشرين؟
- خمسة مثلًا.
- خمس وثلاثين مجلة للمرأة، تصور، لن أحدثك عن بقية المجلات والصحف.
سكت أكثر فقال: سأعترف معك أن لدينا قصورًا فى ذلك، وأن ما تفعله الدولة لا يكفى، أنا أعرف، وأعرف مشاكل الصحافة المقروءة مع الإنترنت الآن، لكن سنتجاهل ذلك كله وأسأل: ما الذى يمنع أن تكون ثقافتنا المادية جميلة، الشوراع والمبانى والحدائق وهكذا، لماذا يغيب دور الدولة؟
سكت.. قال: لماذا لا ترد؟
لم أرد، فقال: أكيد تعرف الحقيقة.
قلت: أنا تعبت من الكلام فى السياسة.
- وأنا أيضًا، لكن هل رأيت بلدًا يفرط فى ثقافته المادية إلى هذا الحد؟
لم أرد فقال: أنا سأقول لك، المسؤول عن ذلك هم المحافظون عبر الستين عامًا الماضية.
نظرت إليه حائرًا فقال: أليسوا حكام المحافظات؟
قلت يائسًا: هرمنا من الكلام فى ذلك.
سألنى: من الذى سمح بردم البحيرات العظمى فى مصر؟ أين ذهبت بحيرة مريوط والبرلس والمنزلة وإدكو؟ مريوط انتهت تمامًا، أكثر من مائة وخمسين كيلومترًا مربعًا انتهت، إدكو والبرلس باقى ربع كل منها، والمنزلة كانت سبعمائة ألف فدان باقى منها مائة ألف، دولة ردمت بحيراتها من أجل إقامة مزارع سمكية!
- أرجوك.
قلت يائسًا، فقال: هل تعرف لماذا نحن بصحة معقولة حتى الآن رغم عمرنا؟
- أمر الله طبعًا.
- ونعم بالله، لكن ذلك لأننا تربينا على أكل السمك، السمك زمان كان أكل الفقير، كنا نأكله كل يوم، الآن الكل يعانى من نقص الكالسيوم ولين العظام وغير ذلك، كما قلّت نسبة الذكاء، والتلاميذ عايشين على الحفظ.
- طيب من الذى ردم البحيرات؟
- هل هناك غيرهم؟، المحافظون.
ابتسمت وقلت: مالك ومال المحافظين اليوم، تلف تلف وترجع لهم.
- خبر المواطن السكندرى خرب دماغى.
- وما العمل؟
- المحافظ لازم يبقى بالانتخاب.
ضحكت وقلت: الدستور ترك ذلك لمجلس الشعب المقبل، يحدد بالانتخاب أو التعيين.
سكت قليلا وقال: ومجلس الشعب كمان لازم يكون بالانتخاب.
نظرت إليه مندهشًا فقال: السحلب برد، أنا ماشى، اعتبرنى مجنونًا اليوم.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة