تثير التجربة السينمائية العريضة للراحلة فاتن حمامة سؤالا بالغ الأهمية وهو: ما أبرز المحطات الفاصلة فى أدائها السينمائى؟ علمًا بأنها ظلت تتقمص الشخصيات المختلفة منذ كانت طفلة مع عبد الوهاب (يوم سعيد/ 1940) حتى صارت أمًا عجوز فى (أرض الأحلام/ 1993)، ناهيك عن مسلسلى (ضمير أبلة حكمت/ 1991)، و(وجه القمر/200)؟
فى ظنى أن هناك عدة أفلام مدهشة قفزت فيها فاتن قفزة نوعية فى أدائها الفنى، ولنحاول المرور سريعًا على أهم هذه الأفلام. فى مرحلة الأربعينيات وحتى منتصف الخمسينيات تقريبًا استراحت فاتن على وسادة الأداء التمثيلى التلقائى البسيط، فهى فتاة طيبة.. بريئة.. تتلاعب بها المقادير بقسوة، بغض النظر عن الطبقة التى تنتمى إليها، وقد ساعدتها ملامحها الهادئة وجسدها القليل ونبرة صوتها المسالمة على تجسيد عشرات الأدوار التى يتعاطف معها الجمهور من اول لقطة!
لكن أول النقلات الحقيقية كانت على يد صلاح أبوسيف فى (لا أنام/ 1956)، فهنا نزعت عنها ثياب البراءة المنصاعة لألاعيب القدر، وارتدت ثوب الخبث الذى يفرح بإيذاء الآخرين والتنغيص على حياتهم.
فى تحفتها الخالدة (دعاء الكروان) ذهبت فاتن بعيدًا.. إلى أعماق الصعيد والحياة الخشنة، وجادت علينا بأداء بالغ الرهافة، فهى فتاة عفوية.. رقيقة.. لكنها ترى خالها يقتل شقيقتها، فتنقلب مشاعرها غضبًا وسخطا على العالم، فتقرر الانتقام، وتستخدم سلاح الإغواء، لتكتشف أنها سقطت فى نهر العشق. من فضلك.. تأمل تحولاتها النفسية وانعكاسها على مشيتها ونبرة صوتها المشحونة بالغم، ونظرة عينيها المترعة بالحزن والغضب، فى (دعاء الكروان) أعطتنا فاتن حمامة دروسًا ثمينة فى فنون التمثيل.
أما فى (نهر الحب/ 1960) لعز الدين ذو الفقار فقد تقمصت فاتن دور امرأة عاشقة تخون زوجها وتضحى بابنها، لأن الزوج رجل مُسن بلغ من العمر أرذله ومنكب على طموحاته السياسية، ومن عجب أن الجمهور مازال حتى الآن متعاطفا مع الزوجة الخائنة فى إشارة خفية إلى أن الحب الحقيقى يبرر الخيانة مادام الزوج مستبدًا!
فى عام واحد (1963) جسّدت فاتن حالة الفتاة الثورية التى تتمرد على سطوة الأسرة وتقاليد المجتمع وتقرر الانخراط فى العمل الوطنى ضد الاحتلال الإنجليزى (لا وقت للحب)، وضد العدوان الثلاثى (الباب المفتوح). تذكر معى الرعب المنبعث من عينيها على رشدى أباظة فى المشهد الأخير من (لا وقت للحب)، كذلك الفزع الذى اعتراها عندما ضربها أبوها حين خرجت فى مظاهرة فى (الباب المفتوح). إنها تمثل وكأنها لا تمثل كما وصفها الناقد الكبير كمال رمزى.
يبقى لك فى جعبتى أربعة أفلام حاسمة فى تاريخها السينمائى هى (الحرام/ 1965)، و(الخيط الرفيع/ 1971) لبركات، و(امبراطورية م/ 1972) لحسين كمال، و(ولا عزاء للسيدات/ 1979) لبركات.
بلغت فاتن فى هذه الأفلام الجميلة درجة من النضج لم تبلغها ممثلة مصرية أخرى، واستطاعت أن تذوب فى شخصية الفلاحة المقهورة بسهولة، ثم طارت لترفرف فى دور الخليلة المهجورة أو كيلة الوزارة المشغولة بأبنائها، أو المرأة المطلقة الملعونة اجتماعيًا.. كل هذا بسلاسة غير مسبوقة.
رحم الله السيدة فاتن حمامة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة