جسر بونتى سالازار: هو الجسر الوحيد الذى رأيته فى حياتى بهذا الحجم، وهذا ما لن يعرفه «ألبرتو»، مطلقا كما أنه لن يعرف فى يوم من الأيام أنه الإنسان الوحيد - وبدقة أكثر - أنه البحار الوحيد الذى كان تأثيره فى حياتى بعد ذلك تأثيرا ضخما وحقيقيا وعميقا، فمنذ أن توطدت مودة خفية بيننا، فقد اكتشفت أنه لا يأمن جانب الغرباء، فى حين أن كل ما كان يشعر به تجاههم هو الخوف منهم، فقد كان دائم الحذر والتوجس من انقضاضهم عليه، ولذلك فإنه كان يظهر دائما لهم المودة والصداقة فيما كان يخفى مشاعره الحقيقية المشبعة بالخوف وابتسامة باهتة كانت تعطى ملامحه نوعا ما من الوداعة ومسالمة الآخرين، وربما كان هذا هو الانطباع العام لعمال ميناء «بنزرت» فى بار «هاينيبال» بعد أن دعاهم على شرب زجاجة الكونياك «كورفوازييه» الفرنساوى حتى يتقى شرهم، بهذه الحقيقة صارحنى بها «ألبرتو» نفسه ونحن منهمكين فى مسح سطح السفينة، وعندما سألته عن سبب خوفه من الغرباء، أو «الأغيار» كما يسميهم، لم يجبنى إجابة واضحة، بل أخرج من الجيب الخلفى فى بنطلونه خنجرا صغيرا لوح به مرتين ثم أعاد دسه فى ملابسه، وهو يحكى لى عن طائر الخوف الذبيح الذى يعشش فى قلب كل فرد فى عائلته، خوف متوارث عبر سنوات طوال وربما من آلاف السنين حتى تحول ذلك الطائر الذبيح إلى غريزة تتوارثها أفراد أسرته التى لم يتبق منها سوى أبيه وأمه وأخته الكبرى وجدته لأمه التى مازالت تقاوم الموت بالرغم من عمرها الذى ربما يكون قد جاوز التسعين عاماً.
تكررت تنويعات كثيرة بيننا بهذه الخصوص طوال تلك الأيام التى كانت فيها «أرياس» تشق ماء البحر المتوسط فى طريقها لعبور مضيق جبل طارق قبل الدخول فى خليج «كاديز» والوصول النهائى لميناء لشبونة على المحيط الأطلنطى، وفكرت أن «ألبرتو» ربما كان يتحدث معى عن خوفه لينقل لى تحذيره المبطن من أن يناله من جانبى خيانة أو ضرر ما قد ألحقه به كما يفعل البحارة الغرباء مع بعضهم دائما، ولم أعرف كيف أطمئنه من جانبى وربما يكون هو قد أدرك مخاوفى فقد راح يتحدث معى عن أننى من القلائل الذين قابلهم فى عمله كبحار محترف وهو يطمئن لهم، لكن محاولته لطمأنتى لم تكن كافية لتزيل ظنونى تجاهه، وفكرت عدة مرات فى ذلك الخنجر الصغير ذى النصل الحاد اللامع الذى كان يدسه فى جيب بنطلونه.
كل يوم يمر على ظهر السفينة جدير بأن يحكى، وبالتالى إذا كانت الحكاية فى جزء منها سوف يكون بطلها هو « ألفاريز ألبرتو ريجاردو» فكل ساعة تمر معه يمكن حكايتها فى عشرات الساعات وربما الأيام، فهناك دائما آلاف التفاصيل فى كل تصرف من تصرفاته، بعيدا حتى عن الأفكار التى تجول فى رأسه أو المشاعر التى تسكن أعماقه، فلا يمكن لأحد أن يعرف ما يفكر فيه الآخرون أو ما يسكن أعماقهم من مشاعر، لكن كل ما تستطيع هو تصور تلك المشاعر وهذه الأفكار وبالتالى بناء عالم الأفكار والمشاعر التى يختزنها «ألبرتو»، وتدفعه لكل تصرف من تصرفاته، ومن الأفضل لنا أن نكتفى بأن نرى «ألبرتو» كما هو فى الواقع كبحار برتغالى نشط يؤدى عمله بإتقان وتفان وإذا أمن جانب صديقه حدثه كثيرا عن مخاوفه من الغرباء و«الأغيار»، وإذا حاولت أن تسأله من هم هؤلاء الأغيار؟ فإنه لن يجيبك إلا بقوله بأن انظر حولك وأمامك وخلفك، انظر فى كل ما يحيط بك وأنت سوف تفهم، وربما لن تفهم من إجابته هذه شيئا محددا لكنك بالتأكيد تحس بأن خوفاً حقيقياً وغريزياً يتملك روحه، وللمذكرات بقية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة