عندما تطالع ما كتبه طه حسين منذ عشرات السنين تشعر كأنك تقرأ فى أحد كتب التنجيم عن أمور غيبية فى حياة فاتن حمامة وزهرة العلا الحقيقية لا مجرد شخصيتين أسندت لهما أحداث فى إطار حبكة سردية بين طيات «دعاء الكروان «لينقلها لنا المخرج هنرى بركات ببراعة وتألق وكأنه يوثق هو الآخر بالصوت والصورة هذه الغيبيات مسبقا، ويصور مسارا حياتيا وواقعيا لشخصيتين من جملة البشرية، لا مشاهد متتالية من فيلم سينمائى يودع فى أرشيف السينما، وعندما اختار فاتن وزهرة ليسند إليهما دورى بطولة، كأنه اختارهما ليسند إليهما حدثا محوريا من بطولة حياتيهما لا دور البطولة فى الفيلم، إذ يخال إليك أنهما تمثلان مشاهد تراجيدية من مشاهد جمة فى حياتهما ومماتهما.
ونحن نشاهد «دعاء الكروان»، من منا لم يتأثر ويهتز وجدانه وهو يتابع أحداثه؟! من منا لم يكتم أنفاسه فى انتظار معرفة مدى صدق نبوءة تلك البدوية "العرافة المقدسة" ضاربة الرمل، التى تبصرت بموت هنادى "زهرة العلا"، لكن لجأت إلى طريقة مطعمة بالإلغاز فى حديثها عندما قالت لها: "يفك ضيقتك ربنا ويغنمك السلامة قادر يا كريم" حتى أصبحت النبوءة واقعا على يد الخال، تبدو البدوية كأنها كانت تمارس عملها على كف القدر وتنسج خيوطه بحرفية خارقة.. خيوط قدرهما.. قدر هنادى "زهرة العلا" التى رحلت أولا فى الفيلم، وهو ما كان وتحقق فى الواقع ورحلت زهرة العلا فى 2013 ثم تلحق بها أختها آمنة (فاتن حمامة) 2015، بعدها بعام وشهر تقريبا، وإن كان فى السينما سبقت هنادى زهرة العلا آمنة إلى بارئها، فإنه لولا أن افتدى مهندس الري- الذى بيّتت آمنة الانتقام منه لمقتل أختها بعد أن غرر بها وتسبب فى مقتلها على يد الخال- للحقت بأختها بعد وقت أقرب إلى الفترة الزمنية بين مماتهما فى الواقع، ولو أن بنية الرواية والفيلم تقتضى أن تصيب الرصاصة آمنة لكنا أمام نسخة كربونية منها الآن مع فارق كيفية وأسباب الممات.
حزن فاتن على زهرة العلا لم يكن أقل من حزن آمنة على هنادى، حيث قالت «سيدة القصر» بعد رحيل زهرة العلا فى تصريحات صحفية: «قد حزنت كثيرًا على وفاتها مضيفة- فى تسليم بقدر الله-: ولكن هذا حال الدنيا.
أمر آخر هنا لا بد من الإشارة إليه، وإن كان يخص فاتن وحدها، وهو أن ولع مهندس الرى (أحمد مظهر) بحب الفتاة آمنة- رغم حالة الجفاء التى لاقاها منها نتيجة صراع داخلى جمع بين ثنائية الوفاء والخيانة، بين وفائها لأختها التى قطعت على نفسها عهدا بالانتقام لها، وبين أن تكون خائنة له- جعله يفتديها بنفسه ويتصدى لرصاصة الخال مستعذبا ذلك راضيا، وأحسب أن عمر الشريف لو كان يستطيع أن يفتدى آمنة بنفسه لفعل طائعا مستسيغا.
نستطيع أن نقول، أن زهرة العلا وفاتن كانتا رفيقتى الواقع والسينما أو رفيقتى الحياة والممات، أو كما قالت فاتن: "كنا أكثر من الأخوات ودامت بيننا الصداقة فترة كبيرة إلى أن فرقنا الزمن وكل واحد منا أخذ طريقًا مختلفًا" وها قد اجتمعتا ثانية، فليتغمدهما الله برحمته ويعوض مصاب الفن فيهما خيرًا.