أصبحت الرواية احتياجا إنسانيا، بعد أن فشل الجيران وزملاء العمل والأقارب فى التواصل، وبعد أن حددت العولمة إقامة القارئ وحرمته من الحكى ومن معرفة الآخرين الذين يخوضون معارك ما (كبيرة أو صغيرة لا فرق) فى أماكن بعيدة، والرواية عوضت هذا القارئ عن حياته «الفقيرة» فى السنوات الأخيرة، وأوهمته أنه يعيش فى حكاية ما، وأنه لا يفوته شىء، وحل الروائى محل الشاعر العربى القديم، الذى يقوم بأدوار عدة باعتباره حكيما وفارسا وشاعرا وحكاء ومنشدا ويمتلك اليقين كله، وتراجعت القصة القصيرة، كان محمد البساطى، رحمة الله عليه، من القلائل- برغم كراماته فى فن الرواية- الذين يتعاملون مع هذا الفن بإجلال واحترام، واثقا من إمكاناته المذهلة فى التأثير على القارئ و«خطفه» من خلال حكاية تبدو عابرة.
أحن بين الحين والآخر إلى الصديق الكبير وإلى عالمه، لأنه كان يلتقط علاقات شعرية لا يراها غيره برغم مرور الجميع عليها، لم يكن مشغولا بعمل سيرة ذاتية لأبطاله، ولكنه يضبطهم متلبسين فى الحياة، ينتظرون فى المستشفيات، أو فى غرف ضيقة على سطوح، شخصيات من المستحيل أن تحتفى بها الدراما التليفزيونية، لأنها شخصيات حقيقية، أبطاله من الفرانين ومصلحى «الكلوبات» وبائعى الفول والخادمات والمقعدين والرسامين والمرضى، أنت أمام حالات سحرية يحيطها الحزن من كل جانب، هو لا يكتب عن الحزن، هو يستثمره برشاقة ويشير من خلاله إلى مصائر بشر معظمهم فقراء تحميهم إنسانيتهم من الفناء، لم يكتب من أجل الجوائز ولا الترجمة ولم يتقرب من سلطة.. وعندما تصفو الأمور سيعرف الناس منزلة البساطى الحقيقية.