قابل بعض المتعجلين خطوات «التحرر الاقتصادى» فى مصر التى اتبعها نظام مبارك بتفاؤل شديد، على أن هذا النهج من شأنه أن يعبّد الطريق أمام الديمقراطية. ويقوم هذا التصور على أن الاقتصاد المخطط يضع جميع الموارد تحت تصرف الحكومات، وبذلك يشكل دعوة مفتوحة لها بأن تكون مطلقة اليد فى استخدام جميع هذه الموارد لتقوية سلطتها، أو تسلطها على وجه الدقة، وضمان استمرار هذه السلطة، والمصادرة على قيام تعددية سياسية حقيقية.
ومصدر هذا الخداع أن نظام مبارك حرص على إضفاء مسحة من الديمقراطية على ممارساته، لأنه كان يدرك أن «القمع الدائم» لن يأتى إلا بنتائج عكسية، ولذا يحتاج إلى ما يخفف به من غلواء الانتقادات التى كانت توجهها إليه الدول الديمقراطية، وإلى ما يقنع به رأس المال الهارب كى يعود إلى وطنه، أو يجلب به الاستثمار الأجنبى، ويستقطب بعض أعضاء النخب الداخلية، من خلال نحت أدوار مزعومة لهم برئاسة أحزاب سياسية، أو مؤسسات، أو حتى الاكتفاء بغض الطرف عن آرائهم وانتقاداتهم مادام أنها لا تتعدى الخط الأحمر الشفاهى الذى رسمته الحكومات.
ونظام حكم من هذا القبيل كان بوسعه أن يجمع بين التحرر الاقتصادى والتسلط السياسى، فالعصبيات الحديثة أو «الزبائنية» تقف حائلًا دون أن يؤدى الانفتاح الاقتصادى إلى تطور ديمقراطى. وهناك ثلاثة أنواع من هذه العصبيات، الأولى هى الشبكة التى تتشكل حول شخص بيده سلطات ما، والتى تتقطع خيوطها حين تنقضى سلطته، ونجد مثالًا لها بمجموعة المنتفعين التى تلتصق بأصحاب المناصب، والثانية تتمثل فى العصبيات التقليدية التى لها وجود سابق على الدولة، مثل القبائل والعشائر والعائلات والأسر الممتدة.. إلخ، والتى من الممكن أن تلعب أدوارًا سياسية، أو حتى تدير دفة الحكم، حسب النمط الخلدونى فى العصبية، أما الثالثة فهى المجموعات المتضامنة الحديثة التى ليس لها وجود سابق على الدولة، والتى توجدها المنافع والحماية المتبادلة للمحسوبيات، وزواج الأقارب والشلل الحاكمة التى تدير الدولة لمصلحتها وحدها، بطريقة تشبه النموذج المملوكى أو تحاكيه.
وبالطبع فإن «العصبيات الحديثة» تختلف عن التحالفات الاجتماعية التى تتبع منطق المساومة، وتنشأ إثر ترابط المصالح أو توافق الأيديولوجيات والميول السياسية، والتى تعد إحدى سمات الديمقراطية. وهذه التحالفات تعنى اتفاق مجموعة من الأفراد على مواصلة السعى إلى تحقيق أهداف مشتركة، واستخدام المصادر المتاحة لديهم من أجل بلوغ هذه الأهداف، ووجود ترابط بينهم خلال الإجراءات الرامية إلى تنفيذ ما يحقق تلك الأهداف، ثم الاتفاق على توزيع ما ينجم عن هذه الإجراءات من عوائد.
وعمومًا تظهر مثل هذه التحالفات فى أثناء عملية تشكيل الحكومة، والتى تكون مهمتها تنفيذ البرنامج الانتخابى للمرشحين الفائزين.ولهذا النوع من التحالفات عيوبه التى لا يمكن غض الطرف عنها، والتى تسعى الديمقراطيات الحديثة إلى التخلص من بعضها، لكن هذه العيوب أقل سوءًا بالنسبة للديمقراطية من تلك التى تترتب على ممارسات العصبيات الحديثة التى تسد المنافذ أمام قيام نظام حكم ديمقراطى.
فهذه الأنواع من العصبيات تمنع ترجمة التحرر الاقتصادى إلى انفتاح سياسى، لأنها تقضى على مبدأ الفرص السياسية المتكافئة، القائم على انتشار واسع النطاق أو متعدد للثروة الاقتصادية، وفى الوقت ذاته تستخدم أدوات الإكراه المادى والمعنوى على نطاق واسع فى سبيل قهر الجماعات التى من الممكن أن تنافسها على السلطة، أو حركة الجماهير المطالبة بالتغيير الديمقراطى.
كما أن القائمين على التحرر الاقتصادى، فى ظل هذه العصبيات، لا ينتجون تنمية، فهم «تخصيصيون غير تنمويين»، إذا صح التعبير، همهم الأساسى هو جمع الثروات، وهذا يتطلب البحث عن المشروعات التى تحقق ربحًا سريعًا، وهنا تطل ملامح المجتمع الاستهلاكى برأسها. وقد يعتقد البعض أن البدء بمشروعات استهلاكية قد ينتهى بتنمية حال اتباع خط مستقيم فى تعميق التصنيع.
لكن هؤلاء التخصيصيين لا يعمقون صناعة، إذ إنهم يتحولون قبل بلوغ هذه المرحلة الصناعية بكثير إلى مستوردين كبار للآلات والمعدات التى يدشنون بها مصانعهم، أو يصبحون وكلاء تجاريين لشركات كبرى تجعل منهم موزعين أكثر من كونهم منتجين حقيقيين، وعدم إنتاج التخصيصية للتنمية يعنى تضاؤل فرص التحول الديمقراطى، من منطلق الدور الذى تلعبه التنمية فى هذا الشأن، والذى سبق تناوله.
وهناك أكثر من نموذج يوضح الصور التى تتخذها هذه العصبيات الحديثة، أو التحالفات الاجتماعية المشبوهة، أولها يتمثل فى «تحالف البيروقراطية والرأسماليين الجدد»، وفى ظل هذا الوضع تولد طبقة من المستثمرين الصناعيين، أو التجار الكبار يمالئون السلطة، مقابل أن تتولى حمايتهم، وسن القوانين، واتخاذ الإجراءات التى تحقق المنافع المتبادلة للطرفين. ويأخذ هذا التحالف على عاتقه القيام بتحرر اقتصادى تدريجى لا يؤدى إلى هزة اجتماعية، ولا يفقد الدولة أدواتها التقليدية فى السيطرة على الأوضاع.
ويمكن أن نطلق على النموذج الثانى اسم «التسلط المركزى»، إذ إننا فى هذه الحالة نكون بصدد نظام حاكم يحتكر الثروة تمامًا، ويوزعها كيفما يشاء، بما يجلب له الخنوع التام من المواطنين الذين يتحولون إلى مجرد رعايا، وإذا ما أقدم هذا النظام على تحرر اقتصادى فإن ذلك يكون فى دائرة ضيقة من المنتفعين الموالين للسلطة تمامًا أو من بين رجالها، بحيث يستفيد البعض ماليًا من التحرر الاقتصادى الذى يكون تدريجيًا بالطبع، دون تخفيف قبضة الحكم، لأن خطوة من هذا القبيل قد تقلل حجم هذه الاستفادة، أو تجهز عليها.
أما النموذج الثالث فيتمثل فى تحالف الحزب الحاكم وبيروقراطية الدولة، للاستفادة من التحرر الاقتصادى.ويتركز النموذج الرابع فى «وكلاء العولمة الاقتصادية»، ويكمن هذا النموذج فى وجود وكلاء تجاريين محليين للشركات الدولية عابرة القوميات، والشركات الأجنبية الأخرى ووكلاء للاستيراد، يدافعون عن الانفتاح الاقتصادى، ويجذبون إليهم تباعًا عناصر من النخبة السياسية بحيث تتحول هى الأخرى إلى الوكالة.
ويستخدم الجميع القانون والشرطة فى حماية تحالفهم وعلاقاتهم، دون أن يقدموا على فتح المجال أمام الديمقراطية. وإذا كان هناك تصور بأن فتح الأسواق، وزيادة معدلات التمويل، والنشاط المستمر لحركة التجارة ستفكك تسلطية الدولة، فإن «الوكلاء التجاريين» باستطاعتهم أن يفرغوا هذا التصور من مضمونه، ليحافظوا على ليبرالية اقتصادية دون ليبرالية سياسية.
لقد تفرست طويلًا، وفكرت مليًا فى المعايير السبعة لجودة الديمقراطية، فلم أجد أيًا منها كان يتحقق بدرجة كاملة، أو حتى معقولة فى الحالة المصرية قبل ثورة يناير، فلم يكن هناك حكم سائد للقانون، ولا وسائل كافية للمشاركة السياسية والاجتماعية، ولم تتوافر القواعد اللازمة للمنافسة السياسية، ومنها نزاهة الانتخابات وحريتها، وحرية حركة المرشحين، ولم توجد درجة معقولة من المساءلة بشقيها، الرأسى الذى يمارسه المواطنون حيال مؤسسات الحكم، أو الأفقية التى تمارس على مستوى الدولة والمجتمع فى علاقاتها التبادلية والتفاعلية. علاوة على ذلك عانت مصر من تدنى درجة الحرية بأنماطها الثلاثة التى تقوم على الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما لا يتوافر فيها المستوى المطمئن للمساواة بين المواطنين، ولا قدر من الاستجابة لمطالبهم فى السياسات العامة التى تنفذها الحكومة.
ونظرًا لعدم قدرة الخصخصة التى تحولت إلى مصمصة، أو نهب منظم لمقدرات الدولة، على خلق تعددية سياسية أو انتفاح السياسى، انفجر الشعب فى ثورة يناير، لكن لا تزال الفعاليات الاقتصادية فى مصر تظن أن بوسعها أن تزدهر وتتقدم وتعزز مكاسبها فى ظل غياب الديمقراطية، وهذا وهم إن لم يكن خبلًا ونزقًا لا طائل من ورائه سوى الأزمات والخيبات.
د. عمار على حسن
لماذا لم تمهد الخصخصة لديمقراطية عفية فى مصر قبل ثورة يناير؟
الأربعاء، 28 يناير 2015 11:20 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة