«عقارب الساعة لا ترجع أبدا إلى الخلف»
يردد الناس دوماً هذه العبارة الأنيقة، خصوصا فى إطار الحديث عن المكتسبات والتقدم الذى تحققه الشعوب والأفراد فى مراحل معينة تغلب عليها زهوة الفرحة بتحقيق انتصارات ونجاحات أو آمال وطموحات وأمنيات ناشئة عن حماسة زائدة، تجعل أصحاب تلك العبارة يهوون طمأنة أنفسهم ومريديهم بهذا المثال والتشبيه بعقارب الساعة التى تسير دوما فى اتجاه واحد.. حسنا..عقارب الساعة فعلا لا ترجع إلى الوراء «بإرادتها» ولا تسير عكس الاتجاه «لوحدها»! حتى لو تعطلت أو نضبت بطارياتها فإنها قد تؤخِّر وتتباطأ أو ربما تتوقف كليةً لكنها أبدا لا تعكس دورتها من تلقاء نفسها.. نعم نقرُّ بهذا، إلا أن ذلك لا يحدث فقط بهذا الشرط الذى ينبغى أن تتضمنه تلك العبارة المبشرة وحدها.. من تلقاء نفسها.. لكن من قال أنها يستحيل أن ترجع مطلقا؟ إنها ترجع بكل بساطة بفعل فاعل بمجرد أن تُمسك بعقارب أى ساعة حائط أو يد أو بمجرد أن تتحكم بالترس الذى يسيطر على حركة تلك العقارب أو حتى تنتزع العقارب نفسها وتعيد تركيبها فستستطيع بكل سهولة إرجاعهم إلى الخلف ووضعهم عند الرقم الذى تريده، هكذا يفعل «الساعاتى» وكذلك يفعل أى إنسان يريد ضبط ساعته.
مؤثر خارجى تتوافر لديه الرغبة والقدرة على تحريك تلك العقارب وستتحرك بكل أريحية ويُسر فى كل الاتجاهات، لا توجد أى مشكلة فى ذلك ولا توجد ساعة كبرت أو صغرت فى الكون كله - فيما نعلم - يستحيل فى حقها ذلك التراجع أو انعكاس الاتجاه حينما يتضح هذا المعنى سيستقيم المثال ويصح التشبيه ويستفيق الحالم من غفوته ليدرك أن عقارب البشر أيضا ترجع إلى الخلف، على مستوى الأفراد وعلى مستوى الأمم قد يحدث هذا التراجع طالما وُجد الدافع وحضرت الشهوة ووُجد الانتهازيون والمنتفعون برجوعها وطالما توفرت لديهم القدرة على تحريك الأمور وتُرك لهم الحبل على الغارب وغفل الناس عن حقيقة تمكن هؤلاء المنتفعين من عقارب الأمم والشعوب ولم ينتبهوا إلى كون أولئك الانتهازيين يمسكون بتلابيبها فإنهم بكل بساطة سيرجعونها وسيفعلون بها ما بدا لهم
التاريخ قديمه وحديثه يشهد ويزخر بما لا يحصى عدده من النماذج التى رجعت فيها عقارب الأمم إلى الخلف.. نماذج تراجعت فى مختلف الجوانب وعلى جميع الأصعدة والمستويات سواءً على المستوى الفكرى والثقافى أو على المستوى الاجتماعى والأخلاقى أو على المستوى الحقوقى والحرياتى وطبعا على المستوى الدينى والسياسى والاقتصادى.
كل أنواع العقارب قد ترجع إذا ما توفرت إرادة التراجع والقدرة عليه، ربما لا تسير عقارب الأمم على نفس النسق بحذافيره وربما لا يعيد تاريخها نفسه بتفاصيله لكن المحصلة أنها قد ترجع وتتراجع وتنعكس حركتها وتسوء أوضاعها ولا يوجد أى مانع مطلق ينفى حدوث ذلك أو على الأقل احتمالية وقوعه. المشكلة فى من يصر على ترداد الشعارات المطمئنة بلا تفكير ولا نظر وتأمل «لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْض» هكذا حذر نبينا صلى الله عليه وسلم وكذلك نبه أمته، ولطالما سأل ربه الثبات وتعوذ من السلب بعد العطاء ومن الحور بعد الكور وكذلك دعا الصالحون ربهم فقالوا «رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا» المسألة إذاً ممكنة والاحتمال قائم.. ولقد احتشدت فى القرآن والسنة نماذج لأقوام انتكسوا وغيروا وبدلوا وساء ختامهم بعد حسن ابتدائهم ولعل نداء المنافقين على المؤمنين يوم القيامة يعد من أوضح الأمثلة القرآنية لتلك الحقيقة «يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ» فيرد المؤمنون: «بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِىُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ»، إنه إذاً الغرور والاغترار بالأمانى والشعارات الأنيقة الفارغة التى يظن أصحابها أنهم سيقنعون الناس بكونهم مجرد آلات تسير وفق روتين محدد واتجاه ثابت كعقارب الساعة التى هى أيضا أحيانا.. ترجع إلى الخلف.