لم أعد قادرا على حضور كثير من فعاليات معرض القاهرة الدولى للكتاب، التطور الطبيعى للصحة والعمر، لكن يظل هذا المعرض يثير فى روحى ذكريات كثيرة منذ أول دورة له عام 1969، لم يكن ممكنا أن أفوّت فرصة الحضور وشراء الكتب، لم تكن هناك فعاليات ثقافية ذلك الوقت، وكان المعرض فى منطقة الأوبرا حاليا، حضرت من الإسكندرية وليس معى غير سبعة جنيهات، لكنى عدت ومعى أكثر من عشرين كتابا، أسعار زمان!
2 - واظبت على الحضور كل عام حتى صرت أعيش فى القاهرة، ومنذ عام 1975، أصبحت أقضى أيام المعرض كلها فيه، فالمكان جميل، والأصدقاء لا ينقطعون كل يوم ولأنها أيام العزوبية فكان مسكنى فى حدائق القبة مفتوحا للأصدقاء ومن ثم استعار الكثير منهم الكتب ولم يعيدوها حتى الآن، وكما سكنت بلا كتاب معى خرجت إلى شقة الزوجية تقريبا بلا كتاب، كانت أكبر دفعة كتب ضاعت فى يناير عام 1977 حيث تم القبض على كثير من الأصدقاء بعد الانتفاضة الشهيرة وتوقعت القبض علىّ فأعطيت كتبى المهمة كلها تقريبا لشخص كان يتردد على ندواتنا فى قصر ثقافة الريحانى ولا أذكر من اسمه إلا «المنسى» وبعد شهور ولم يتم القبض علىّ، سألته عن الكتب فقال آسفا إن والده حرقها كلها لأن فيها كتبا ماركسية كثيرة، كان من بينها حوار طويل مع نجيب سرور لم أنشره لأنه لا ينشر، وكان يشغل كراسا كاملا مازلت حزينا عليه، كان يمكن أن ينشر الآن على الإنترنت ويأخذ شهرة أكثر من شهرة «الأميات».
3 - عام 1980 شهد المعرض لأول مرة توزيع منشورات ضد حضور إسرائيل للمعرض، وكان ذلك من فعاليات اللجنة الوطنية للدفاع عن الثقافة التى كان مقرها حزب التجمع وكان بها عدد كبير من المثقفين من كل الأطياف، وفى هذا العام قبض فيما أذكر على الدكتورة أمينة رشيد والكاتبة فتحية العسال، إن لم تخنى الذاكرة، وظللنا كل عام نفعل ذلك حتى عام 1985 حيث قبض على عدد كبير من المثقفين قبل المعرض بأيام وكنت بينهم وكانت هذه آخر سنة لحضور إسرائيل للمعرض، كان بيننا مصور وفنان ومثقف إسبانى كبير هو جوردى استيفا اتهم بأنه مندوبنا فى الأممية الرابعة فى أوروبا وتم ترحيله من مصر، وسنناقش يوم الأربعاء الرابع من فبراير كتابه العظيم «عرب البحر» وهو رحلاته الرائعة فى شرق أفريقيا والعالم العربى، الأيام دول!!
4 - فى نهاية الثمانينيات قام المرحوم الدكتور سمير سرحان بإضافة النشاط الثقافى للمعرض، ومن بينه نشاط المقهى الثقافى الذى أخبرنى أنه اقتراح من وزير الثقافة فاروق حسنى وعرض علىّ إدارته ووافقت وظللت أدير هذا النشاط عدة سنوات يساعدنى بعض الشاب ذلك الوقت مثل حسن سرور، وللمقهى ذكريات كثيرة، كثير منها مدهش، منها مرة أيام غزو العراق الأول عام 1991 كانت هناك ندوة للدكتورة نوال السعداوى شنت فيها حملة كبيرة على النظام المصرى الذى يسهم فى الغزو ووقف جوارى حسن سرور حائرا يقول ماذا سنفعل الخيمة مؤكد فيها رجال من أمن الدولة ومخبرين؟ ابتسمت وقلت له اتركها على الله قادر ربنا الدنيا تشتى وتقع الخيمة على اللى فيها، ضحكنا وفوجئنا فى التو بمطر شديد مذهل جدا جعل كل من فى شوارع المعرض يهرع إلى الخيمة يحتمى بها وتزاحم الجالسون والواقفون وبعضهم وقع على الأرض من الزحام ونفذ المطر من سقف الخيمة كصنابير مياه وانتهت الندوة التى صارت فيها الدكتورة نوال السعداوى بين زحام رهيب تكاد تقع من مقعدها ووقفت أضحك وقلت لحسن كده أحسن ولا نمنع احنا الندوة وتبقى صورتنا وحشة، وظل ينظر لى غير مصدق ما حدث ونحن لا نكف عن الضحك.
5 - فى يناير عام 1997 اختيرت روايتى «لا أحد ينام فى الإسكندرية» كأحسن رواية فى العام، وكانت العادة أن يتجه الكاتب إلى الرئيس يصافحه ويتسلم شهادة تقدير، كنت أرتدى كعادتى بدلة بدون كرافتة وجوارى الكاتب سمير غريب سألنى كيف سأصافح الرئيس بدون كرافتة، قلت عادى يا سمير، قال البروتوكول كرافتة، ونضحك، كان معنا الدكتور أحمد مستجير مصطفى، أستاذ الهندسة الوراثية والأديب والشاعر رحمه الله، قال لى إن كرافتته لا يفك محيطها فهو أستك، ويمكن أن أرتديها ثم أعطيها له بعد عودتى فاسمه بعدى بأكثر من اسم وكان كتابه مختارا كأفضل كتاب علمى، أخذت الكرافتة ووضعتها فى عنقى وصعدت للرئيس وعدت لكنهم نادوا على الدكتور مستجير بعدى مباشرة، وقفت فى الطريق وخلعت الكرافتة وقدمتها إليه يضعها فى عنقه ودوت القاعة بالضحك.
6 - لا يمكن أن يمر الحديث دون أن أتذكر العظيم يوسف إدريس، ففى يناير عام 1991 أيام غزو العراق الأول خالفت عادتى فى الجلوس فى آخر المقاعد لأنام، وجلست فى الصف الثالث جوار المرحوم سيد حامد النساج الذى كان يريدنى فى أمر ما، كان الذهاب عادة لحضور لقاء الرئيس مبكرا ساعة تضاف إليها ساعة انتظار حتى يمر الرئيس بالمعرض، وجاء يوسف إدريس متأخرا لكن قبل حضور الرئيس وكانت المقاعد الأمامية ممتلئة بالوزراء فوقف بالباب ذاهلا وظهرت على وجهه ملامح الغضب فوقفت وأشرت إليه وطلبت منه أن يجلس مكانى فى الصف الثالث وأننى جلست لأحجز هذا المكان له، لم يقتنع طبعا، وبدورى كنت أفعل ذلك لأنى أحبه وهو يحبنى ولا أريده أن يغضب، فى النهاية جلس مكانى وذهبت إلى مقعدى الذى أحبه فى الخلف، ما إن حضر مبارك حتى وقف يوسف إدريس وقال إنه يريد أن يتكلم أول الناس فقال له مبارك تفضل فقال «يوسف ادريس» نحن نراك سيادة الرئيس مرة كل عام، وهؤلاء الوزراء يرونك كل أسبوع أو كل يوم، وفى يومنا السنوى يأتون ويجلسون فى الصفوف الأولى، أرجو فى العام المقبل أن يجلسوا فى الخلف ويتركوا مقاعدنا، دوت القاعة بالتصفيق من الكتاب وابتسم مبارك وقال له: «حاضر يا دكتور يوسف»، لكن فى مايو من نفس العام توفى يوسف إدريس ولم يحضر بعد ذلك أبدا معرض الكتاب.
7 - كان سمير سرحان يقيم محاضرات مهمة استضاف فى بعضها محمد حسنين هيكل حتى منع، لكن أخطرها كانت المناظرة التى واجه فيها فرج فودة الشيخ محمد الغزالى، كان الحاضرون من الجماعات الإسلامية أعدادا غفيرة ملأوا الشارع أمام قاعة المحاضرات الكبيرة، وانتهت المناظرة بهزيمة الشيخ الغزالى ومن معه أمام فرج فودة ومن معه، وتوقعنا اغتيال فرج فودة وحدث الاغتيال بعدها بعدة أشهر، توقفت المناظرات بعد ذلك.