فى نهاية السبعينيات أعلن العقيد معمر القذافى عن النظرية الثالثة فى الحكم والسلطة والسياسة «الكتاب الأخضر»، وكان خليطا من المذاهب الاشتراكية والرأسمالية والاجتماعية ألفه عدد من الأكاديميين بطلب من القذافى، الذى صدق أنه زعيم ملهم ومفكر فيلسوف لن يكتفى بتغيير ليبيا بل يستعد لتغيير العالم، ونشر مذهبه فى قارات الكون لإنقاذ العالم من الضياع. قال: إن الاشتراكية والرأسمالية فشلا وهناك حاجة لمذهب جديد.
وخلال هذه الفترة كان التوتر على أشده بين القذافى والرئيس السادات، بعد أن أعلن السادات مبادرته وعقد اتفاقيات السلام مع إسرائيل، وأعلنت جبهة الرفض العربية ممثلة فى العراق وليبيا وسوريا قيادة الرفض، وتم إنشاء محطات إذاعية ضد السادات ومبادرته للسلام، استقطبت عددا من الإعلاميين والصحفيين المصريين والعرب من معارضى السادات، والذين اتهمهم بالعمل بالتآمر وتلقى تمويل من الخارج، واستضاف القذافى عددا من المعارضين الذين خرجوا من مصر بدعوى أنهم مطاردون، وحصلوا على حماية وأموال، وقتها كان السادات قرر حظر تداول الكتاب الأخضر فى مصر، وكانت الإذاعات المعارضة تذيع فصولا مسموعة من الكتاب الأخضر، وبسبب الحظر على الكتاب كان الشباب المعارض والثورى وقتها يبحث عن المحطات التى تذيع الكتاب ويسجلها ويفرغها ويطبعها، وكان الأمر يمثل لذة، لأن «تسريبات الكتاب» كانت تعطى شعورا بالمغامرة الثورية والشعور بالخطر.
ومع الوقت اكتشفنا من كثرة التداول والاطلاع على تسريبات الكتاب الأخضر أنه «سمك لبن تمر هندى»، لا يخلو من حس فكاهى وفى نهاية الثمانينيات تحسنت العلاقة بين مبارك والقذافى وسمح بتداول الكتاب الأخضر فى معرض الكتاب، بكميات ضخمة مطبوعا ومسجلا بكل لغات العالم، وكان بعض الوكلاء يوزعونه بالمجان كنوع من الدعاية الثورية لنظرية القذافى الثالثة، وكنا نستفيد من الشرائط الفاخرة فى عملنا الصحفى نسجل عليها أحاديث المصادر.
بعد رفع الحظر عن الكتاب الأخضر أصبح بلا قيمة، وكان القذافى يدفع لنواد كبرى فى أوربا حتى ترتدى فانلات عليها رموز نظريته وكتابه الأخضر، وانفق مئات الملايين لترويج كتابه، كان يمكن أن تبنى دولة عصرية فى ليبيا، وتحول الكتاب الأخضر إلى سبوبة كبرى لعدد من الناشرين حققوا من ورائه أرباحا ضخمة، ولو انتبه القذافى لأبقى كتابه محظورا «وتسريبات» لأنها أكثر إثارة وانتشارا.
نقول هذا بمناسبة رواج قنوات ومواقع تذيع تسريبات بلا قيمة، وكتاب أصبحوا يجيدون تحويل نفسهم إلى تسريبات وأنهم ممنوعون، فى زمن يستحيل فيه منع أحد، ومتابعى فيس بوك وتويتر ويوتيوب عشرات أضعاف قراء ومشاهدين، لكن طبعا من أجل الرواج «اعمل نفسك تسريبات».