بعد أقل من ثلاثة أسابيع يُكمل الدكتور جلال أمين الثمانين عاماً الأولى من عُمره.. مَتّعَه الله بالصحة والعافية وأبقاه لنا نَبْعاً لا ينضب من الحكمة.. وهى مناسبةٌ تستحق أن يُحتفى بها، ليس فقط لأنها لن تتكرر قبل ثمانين عاماً أخرى، قد لا يُتاح وقتها لمعظم قرّاء هذا المقال إحياؤها.. ولكن لأن الأمم العظيمة «تَتَلكك» على مثل هذه المناسبات لإحياء ذكرى مشاعل النور والحكمة والإبداع فى تاريخها «شكسبير/ طاغور/.. » فما بالنا وجلال أمين حىٌّ بين ظهرانينا.. يُذهلنا عطاؤه وتغمرنا حكمته وأتصور أن الاحتفال بهذه المناسبة لا يكون بالطقوس المعتادة لأعياد الميلاد بإهداء الحلوى وإطفاء الشموع «هو لا يُمانع».. ولا بمَنْحِه جائزةً جديدةٍ تُضاف إلى دولاب جوائزه «ونحن لا نُمانع».. ولكن بمهرجانٍ ممتدٍ ومتعدد الفعاليات لاستخراج الكنوز المخبوءة بين سطور كُتُبه ومقالاته.. مهرجانٍ يتنافس فى إحيائه مصر الرسمية وغير الرسمية.. مؤسسات الدولة والمؤسسات الخاصة.. هيئة الكتاب ومكتبة الإسكندرية ودار الأوبرا ومؤسسة ساويرس الثقافية ومؤسسة دوم مثلاً.. الأهرام والأخبار والمصرى اليوم واليوم السابع والشروق مثلاً.. مهرجانٍ قد يكون من فعالياته معرضٌ خاص بإنتاج جلال أمين تُقام على هامشه ندواتٌ ولقاءاتٌ وتتشارك فيه دور النشر التى تشرّفت بطبع كُتُبه.. وقد يكون فيه لقاءات تليفزيونية دسمة مع جلال أمين يُديرها مذيعون مثقفون ينصتون أكثر مما يتكلمون ويعرفون قيمة مَن يحاورونه.. لأن مُتعة الاستماع لجلال أمين لا تقّل عن مُتعة القراءة له.. يعرف ذلك كل من تشرّفوا بالاقتراب منه.. هذا رجلٌ نُطقُه بليغٌ وصمتُه أكثر بلاغة.. يُغلّف آراءه بالغة الجِديّة بابتسامةٍ عَذبةٍ وخِفّة دمٍ مِصريةٍ آسرة.
أثرى جلال أمين المكتبة العربية «ولا يزال» بعددٍ كبيرٍ من الكُتب، كلُها من الوزن الثقيل، إلا أن الكتاب القنبلة الذى خرج به إلى جموع القرّاء غير المتخصصين كان كتاب «ماذا حدث للمصريين؟ تطور المجتمع المصرى فى نصف قرن 1945-1995» الذى حلّل فيه بأسلوبه السهل الممتنع التغيّرات التى حدثت للمصريين خلال نصف قرنٍ.. عند صدور هذا الكتاب من عشرين عاماً كان يُوصف بأنه أشهر كُتُبه، لكن هذا الوصف لم يعُد دقيقاً بعد ما جاد به من مؤلفاتٍ بعد ذلك، فضلاً عما اكتشفه غير الأكاديميين من كنوزٍ سابقةٍ على «ماذا حدث للمصريين؟».. يكفى رصْد بعضٍ من عناوين مؤلفاته السابقة واللاحقة لنعرف عن أى مفكرٍ نتكلم: «ماذا علمتنى الحياة: سيرة ذاتية»- «رحيق العمر» وهو سيرة ذاتية أخرى مضافة إلى «ماذا علمتنى الحياة»- «وصف مصر فى نهاية القرن العشرين»– «عولمة القهر: الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر»– «عصر الجماهير الغفيرة»– «عصر التشهير بالعرب والمسلمين»– «خرافة التقدم والتأخر»– «مصر والمصريون فى عهد مبارك 1981-2008»- «كشف الأقنعة عن نظريات التنمية الاقتصادية»- «شخصياتٌ لها تاريخ»- «فلسفة علم الاقتصاد: بحثٌ فى تحيّزات الاقتصاديين وفى الأسس غير العلمية لعلم الاقتصاد»- «مبادئ التحليل الاقتصادى»- «الاقتصاد القومي: مقدمة لدراسة النظرية النقدية»- «الماركسية: عرضٌ وتحليلٌ ونقدٌ لمبادئ الماركسية الأساسية فى الفلسفة والتاريخ الاقتصاد»- «المشرق العربى والغرب: بحثٌ فى دور المؤثرات الخارجية فى تطور النظام الاقتصادى العربى والعلاقات الاقتصادية العربية»- «محنة الاقتصاد والثقافة فى مصر»- «تنميةٌ أم تبعيةٌ اقتصاديةٌ وثقافية؟: خرافاتٌ شائعةٌ عن التخلف والتنمية وعن الرخاء والرفاهية»- «الاقتصاد والسياسة والمجتمع فى عصر الانفتاح»- «هجرة العمالة المصرية»- «نحو تفسيرٍ جديدٍ لأزمة الاقتصاد والمجتمع فى مصر»- «مصر فى مفترق الطرق»- «الدولة الرخوة فى مصر»- «معضلة الاقتصاد المصرى»- «المثقفون العرب وإسرائيل»- «عولمة القهر» هذه العيّنة من الكتب غيضٌ من فيضٍ، أما المقالات فحديثٌ آخر.. على مستواى الشخصى لم أدرِ ماذا أفعل احتفاءً بهذه المناسبة.. فلا أنا مُشرفٌ على الصالون الثقافى لمركز إعداد القادة لأُسهم بصفتى الرسمية فى هذا المهرجان.. ولا ظروف عملى الجديد خارج مصر تسمح لى بالمشاركة المباشرة فى الفعاليات ووجدتُ أن يكون إسهامى بملء هذه المساحة المتاحة لى على مدى حلقتين ببعضٍ من شّذرات الذهب المخبوءة تحت سطور كُتُبه ومقالاته.. لكننى أستأذن القارئ الكريم فى البداية فى سرْد قصة كتابٍ لا تّذكره المراجع ضمن مؤلفات جلال أمين مع أنه من أخطرها ويكشف جانباً فى شخصيته يتجاوز دور المُفكّر إلى دور المُقاوِم.
فعندما فاجأَتنا أمانة سياسات الحزب المُنحّل بما سُمِىَ «مشروع الصكوك»، انبَرَت دولة النفاق لمباركة مشروع الوريث وتأييده وانطلق حشدٌ كامل من الاقتصاديين والإعلاميين المشتاقين فى مواجهة فئةٍ قليلةٍ من المُقاومين.. كانت الكفّتان غير متساويتين.. إلى أن جاءنا المَدَد من الدكتور جلال أمين فانقلب الميزان.. مقالٌ رائعٌ رغم امتلائه بأخطاء التنسيق والطباعة منشورٌ فى جريدة الكرامة.. كانت الجريدة المقاتلة ذات التوزيع المنخفض هى المنبر الوحيد المُتاح للنشر.. ذهبتُ إليه أستأذنه فى تحويل المقال إلى كُتيّبٍ وما كدتُ أُفاتحه فى الماديات حتى ابتسم وقال إنه موافقٌ ومُحبّذٌ بلا ترددٍ ومتنازلٌ عن كل حقوقه كمؤلف كنوعٍ من المقاومة لهذا المشروع الشيطانى وأعطانى أصول المقال «الكتيب» بخط يده مشترطاً أن أُعيد كتابته وتنسيقه بنفسى لكى يضمن سلامته المطبعية.. تطوّع الكِفائى القدير المهندس محمد الشرقاوى بطباعته فى دار النشر التى يمتلكها «أوراق عربية».. قمنا ببيعه لدى باعة الجرائد فى الأكشاك وعلى الأرصفة بسعر التكلفة ثلاثة جنيهات.. ولمّا شاهدنا سرعة نفاد الكُتيبات طَمِعنا فزدناها إلى خمسة جنيهات «!» وأضفنا جنيهات الربح إلى صندوق حماية الشرفاء.. بدخول جلال أمين على الخط بكتيبه الصغير حجماً والثقيل قيمةً حُسمت معركة الصكوك بالضربة القاضية ورَجَحَت كفة ميزاننا.. كان العنوان الذى اختاره للكُتيّب هو «مشروعٌ شيطانى- تحويل القطاع العام إلى صكوكٍ للبيع».. ولخّص رأيه على الغلاف الخلفى «تحويل القطاع العام إلى صكوكٍ للبيع مشروعٌ شيطانى وغير وطنى ولا أخلاقى.. شيطانىٌ لأنه يحاول استغلال نقطة ضعفٍ فى معظم المصريين هى فقرهم، الذى يدفعهم دفعاً إلى البيع، مع التظاهر بأن المتوقع منهم كان غير ذلك.. وغير وطنىٍ لأنه يسمح ببيع أصولٍ كان من المصلحة الإبقاء عليها فى يد الدولة المصرية أو على الأقل فى أيدى أفراد مصريين.. ولا أخلاقى لأنه يفتقر إلى الشجاعة التى تتمثل فى أن يتحمل متخذ القرار المسؤولية عن اتخاذه وعدم إلقاء المسؤولية على الآخرين ».. ويقول فى مَتْن الكُتيّب «كانت سياسة الخصخصة التى دشّنها السادات فى منتصف السبعينيات وتبنّاها عهدُ مبارك، وتَسارعَ تنفيذها منذ مطلع التسعينيات، وعلى الأخص فى السنوات الأربع الأخيرة، مِن قَبيل «إدارة مصر لغير صالح المصريين».. ويقول «سمعتُ مِن أكثر مِن شخصٍ من المتابعين لمثل هذه التطورات الاقتصادية والسياسية فى مصر، وعلى الرغم من معرفتهم الوثيقة بأحوال مصر الاقتصادية، عندما سألتُهم عن رأيهم فى هذا المشروع قولَهم «إنهم لا يفهمون شيئاً».. وقد فسّرتُ عدم الفهم هذا، ليس بغموض المشروع ولكن بوضوحه أكثر من اللازم.. ولكن هذا الوضوح يقترن بتعارضٍ صارخٍ بين ما تقوله الحكومة بشأنه، وبين السلوك المعهود من هذا النظام طوال ثلث القرن الماضى بين ما تقوله الحكومة وما تفعله باستمرار، وكذلك التناقض بين الأغراض التى تدّعى الحكومة أنها تستهدفها من هذا المشروع وبين النتائج التى لابد أن ينتهى إليها، مما يؤدى بالمرء إما إلى أن يصف ما يسمعه بالدجل الصريح، أو إلى الاعتراف تأدباً بأنه «لا يفهم شيئاً مما يجرى»». ازداد حُبّى لجلال أمين بعدما لَمَستُ هذا الجانب المجهول فى شخصيته.. هو كاتبٌ مقاومٌ غير هادفٍ للربح.. كاتبٌ يتصدّق بإنتاجه وربحه لصالح الوطن «كما فى حالة هذا الكُتيّب» أو وفاءً لصديقٍ مثلما حدث مع كتاب آخر، نؤجل تناوله إلى الأسبوع المقبل بإذن الله.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة