مر الاحتفال بعيد الميلاد المجيد دون شحن طائفى، لم نرَ حالة سياسية تقوم على الفرز والتجنيب بمعايير طائفية كانت تنشط تحديدا فى هذه المناسبة، كان هناك من يثير ضجيجا بحرمة تهنئة المسلمين للمسيحيين فى أعيادهم، ويلوى عنق النصوص الدينية فى التأويل والتفسير ليثبت وجهة نظره الكريهة، وكانت أجهزة الإعلام تلتقط هذا الأمر فتحوله إلى مادة مثيرة للنقاش، لكنها وبهذا الأسلوب أدخلت القضية إلى كل بيت وجعلتها على أجندته، مما أحدث استقطابا حولها.
كانت الأجواء السياسية تشجع على مثل هذه الفتاوى الضالة، من خلال تصدر السلفيين والإخوان والجماعة الإسلامية للمشهد، ففرضوا أجندتهم الخاصة على المجتمع الذى وجد نفسه منصرفا إلى الاهتمام بها، وكأن المصريين فرغوا من مجمل القضايا الوطنية ومشاكلهم اليومية فى السياسة والاقتصاد، كان هؤلاء يبددون وقت الناس بجرهم إلى إثارة مثل هذه الأمور، بينما يمضى لصوص المال العام فى طريقهم دون مقاومة، هكذا كانت أجندة القوى التى صدرت نفسها بوصفها تمتلك الدنيا والدين، فلا هى قدمت خدمة للدين، ولم تعرف كيف تقود الناس إلى العيش فى الدنيا بعدل وسكينة ومحبة تقوم على الاحترام المتبادل بين أبناء الوطن الواحد على أرضية وطنية، وليس على أرضية دينية.
الشحن الطائفى الذى تضيق به الأحوال الآن، والذى لم نجد لها مقاما فى الاحتفال بعيد الميلاد المجيد، يمكن القول أنه جاء بعد انكشاف حقيقة الخطاب الدينى المزور الذى مررته القوى المنتسبة إلى الإسلام السياسى فى السنوات الماضية، لكننا يجب أن ننتبه إلى مسألة جوهرية فى هذا الأمر وهى، ضرورة الإمساك بهذه الفرصة التاريخية حتى لا نعود إلى ما كانت عليه الأوضاع فى الماضى، وأن لا نعود إلى مناخ الاحتقان الطائفى الذى كانت عليه مصر فى السنوات السابقة.
تحدثت أمس فى مقالى فى هذه المساحة عن تجديد الخطاب الدينى، وأزيد فى القول بأنه ابن البيئة السياسية، فالاستبداد السياسى سيولد حتما استبدادا دينيا، والظلم الاجتماعى سيولد احتقانا اجتماعيا، وكل ذلك يؤدى تلقائيا إلى خطاب دينى متخلف تطرحه القوى المستفيدة من نشره وتحشو أدمغة الناس به، كقضية عدم تهنئة المسلمين للمسيحيين فى أعيادهم، وبناء على ذلك فنحن إذا كنا على طريق فضح الجماعات التكفيرية الإرهابية، وإذا كانت هى فضحت نفسها بسرعة فائقة عبر إرهابها وطائفيتها وتخلفها، فلابد من استكمال الطريق بعمل السياسات الصحيحة التى تقتلها قتلا، وتقضى فى المهد على أى دعاوى تؤهل لإعادتها.
السياسات المطلوبة ليست أمنية، وإنما سياسات تعبر عن مشروع وطنى جامع، تعبر عن انحيازات اجتماعية واضحة دون لبس للفقراء الذين هم أغلبية الشعب المصرى، فهؤلاء هم وقود النار الذى تريده قوى التكفير والإرهاب، وهم أول ضحايا غياب الدولة، ورأينا خطر هذا الغياب فى ظل نظام حكم مبارك، وبينما كانت القوى الوطنية تطلق تحذيراتها من خطر هذا الغياب، كانت جماعة الإخوان ومعها قوى «اليمين الدينى» يشجعون على إبقائه حتى يجدون الفرصة للتواجد بالزيت والسكر وخلافه.
فى ظل هذه الأجواء، ينشط الاحتقان الطائفى، ويترعرع الخطاب الدينى الذى يشجع عليه، وينجر الناس إلى معارك وهمية، ومنها معارك مثل تحريم تهنئة المسلمين للمسيحيين التى اختفت هذا العام.