ناجح إبراهيم

وسطية الإسلام التى دعا لها الحبيب

الخميس، 08 يناير 2015 06:01 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يا سيدى يا رسول الله, نتعلم منك فى يوم مولدك وسطية الإسلام ونعاهدك على الحفاظ عليها, فلا غلو ولا تقصير، ولا إفراط ولا تفريط، لا تقديس للعقل على حساب النص، ولا تغييب للعقل تمامًا حتى لو كان فى فهم النص، ولا صدام بين الدين والعلم، فالعلم خادم للدين، والدين حاث على العلم، ولا تضارب بين الدنيا والآخرة، فالدنيا هى مزرعة الآخرة، ولا خلاف بين الأصالة والمعاصرة، فكل منهما يخدم الإسلام والأوطان مادامت المعاصرة لا تتعارض مع ثوابت الإسلام، ولا تناقض بين قوامة الرجل وحق المرأة وكرامتها، فقوامة الرجل هى تكليف ومسؤولية وقيادة إدارية مجردة، أما حق المرأة وكرامتها فقد حفظها الإسلام، ورعتها الشريعة الغراء، ولا تضاد بين الاثنين، فليس هناك مكان على الأرض إلا وله قائد، ولا تعنى القيادة اضطهاد الرعية أو ظلمها، فكل هذه التناقضات المزعومة يا سيدى يا رسول الله هى من تأليف وإخراج وإنتاج وصياغة بعض العلمانيين الذين يعتقدون أو يريدون دائمًا للعقل أن يكون مصادمًا للنص، وأن يظل العلم ضد الدين، ويصورون للجميع أن الدين ضد الحضارة والتقدم والرقى فى الدنيا، وأن حقوق المرأة مصادمة لقوامة الرجل.

لقد كذبوا عليك وعلى الإسلام وعلى الناس يا سيدى يا رسول الله، فقد جئت بالحنيفية السمحة التى لا اعوجاج فيها ولا التواء، جئت لتقيم الوزن بالقسط، بحيث لا نطغى فى الميزان، ولا نخسره فى الوقت نفسه، فلا طغيان ولا خسران، لكن عدل وقسطاس «أَلَّا تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ»، فالطغيان فى الميزان هو الإفراط والغلو المذموم، وخسران الميزان هو التقصير والتفريط، وهو مذموم أيضًا. لقد بعثك الله بالقسط بينهما لتعلمنا يا سيدى أن نكون وسطًا وعدلًا، فلا نكون من الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالمعصية، وينظرون إلى الناس من علٍ، ولا المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب، أو يقولون إن فرعون موسى مؤمن. ونتعلم منك يا سيدى أن نكون وسطاً وعدلاً بين بعض الشيعة الذين غالوا فى على رضى الله عنه، فجعله فريق منهم أنه أفضل من أبى بكر وعمر والصحابة أجمعين، ونصبه فريق آخر فى منزلة الأنبياء، وبين الخوارج الذين فرطوا فى حقه، ورموه بما ليس فيه، ولم يعرفوا قدره ومكانته، وبخسوه حقه وفضله، ثم قتلوه، وأن نكون وسطًا بين بعض العلمانيين الذين يقدسون العقل، ويقدمونه على النقل الصحيح إن كان ثمة تعارض شكلى بينهما، ويقولون إن العقل حكم على النص، وحكم على كل شىء، وهو المرجعية العليا للبشر أجمعين، وبين بعض الإسلاميين الذين لا يرون للعقل دورًا على الإطلاق، ويريدون تغييبه حتى لو كان ذلك الدور هو فهم النص وشرحه أو بيان ما غمض منه، أو الوقوف على حكمه الخفية وأسراره ومقاصده، فالإسلام لم يأت بتقديس العقول من دون الله، ولم يأت أيضًا بإلغائها ليعيش العباد فى ضلالات الجهالة والغى، فالإسلام أعطى للعقل دورًا محددًا، فالعقل البشرى مهما كانت قدرته، ومهما علا شأنه فهو مقصور بنفسه، ويحتاج دومًا إلى نور الوحى وهدايته.

والعقل البشرى مهما علا لا يستقل بالتشريع ابتداءً، ولا يعلو أبدًا على وحى السماء مهما كان، وإلا ضل وأضل، وفسد وأفسد، فالعقل البشرى يعمل فى كل ساحات تعمير الكون باتساعها ورحابتها التى لا يحددها نص محدد، أو التى لا نص فيها، وهى أوسع وأشمل وأكبر من كل المساحات الأخرى، فآيات الأحكام كلها فى كتاب الله لا تتجاوز ثمانين آية، فالمباح من الدنيا هو أوسع شىء فيها، وللعقل أن يسبح فيها متفكرًا ومبدعًا ومنشئًا لها كيف يشاء، وهذه المساحة يطلق عليها بعض العلماء مساحة العفو التشريعى، وهى «ما سكت عنه الشرع الحنيف»، وتركها للعقل ليبدع فيها كيف يشاء، وهى أكبر المساحات على الإطلاق.

وللعقل أيضًا أن يعمل فى النصوص الظنية الدلالة، وهى نصوص حمالة لأوجه كثيرة، وهى مساحة قابلة للاجتهادات المتعددة، وللمؤهلين شرعيًا وعلميًا الحق فى إعمال عقولهم فى هذه الدائرة الواسعة أيضًا، حيث إن معظم نصوص القرآن والسنة تدخل ضمن هذا الباب، فمن رحمته سبحانه وتعالى أن جعل معظم النصوص الشرعية ظنية الدلالة ليجتهد العلماء فيها، وتتغير الأحكام والفتاوى الفقهية الفرعية المبنية على المصلحة أو العرف من فقيه إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، ومن بلد إلى آخر، توسعة على الناس وتيسيرًا عليهم، وإثراء للفقه الإسلامى العظيم المنوط به قيادة البشر منذ بدء الرسالة حتى قيام الساعة.

أما النصوص القطعية الدلالة، وكذلك عقائد الإسلام الراسخة، وأركانه الثابتة فلا دور للعقل أمامها إلا التسليم والانقياد والإذعان، إذ إن هذه عبادة العقول، واختبارها من قبل الشرع للاستسلام والانقياد، وخضوع العقل للشرع، وقوله له «تعظيم سلام»، ويهتف العقل قائلاً: «هاهنا أنا عبد وأنت رب، وها هنا انتهى دورى، وهاهنا أقف عاجزًا»، فما أشرف هذا التسليم والعجز أمام الله وقدرته ووحيه وأمره، فالعقل إذا تكبر على نور الوحى ضل، وإذا رأى نفسه فوق الشرع هوى، والشرع كان منصفًا مع العقل فأعطاه أكبر المساحات ليصول ويجول ويفكر ويتدبر، فأعطاه تعمير الكون كله، وأعطاه آليات القياس، ومنحه المصالح المرسلة وغيرها من مصادر الاجتهاد، وأعطاه مناطق العفو التشريعى، وأعطاه منطقة النصوص الظنية الدلالة، فهل يتطاول بعد ذلك على سيده ومولاه الذى خلقه وأعطاه كل هذه المساحات الشاسعة، ليطلب بعد ذلك أن يكون إلهًا، أو فوق الإله، أو معلمًا للإله سبحانه وتعالى. لقد آن للعقل أن يحيا ويستيقظ ويصحو، لكن فى ظل النص، وقد آن للعقل أن ينهض مسترشدًا بالنص، وآن للعقل أن يحتل مكانه الطبيعى تحت سقف النص، وآن لنا أن نعمل عقولنا لخدمة النص «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ»، ألم يكن الشافعى يمكث ليلة واحدة ليستخرج من الآية الواحدة أربعين حكمًا «فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»، فعلى الإسلاميين أن يعملوا عقولهم دائمًا، وألا يربوا الناس على إلغائه، وعلى العلمانيين ألا يقدسوا العقل، وأن يضع كل واحد منهم العقل فى مكانه الصحيح، وأن يعلموا أن العقل الصحيح لا يمكن أبدًا أن يعارض أو يصطدم مع النص الصحيح، لكن المشكلة دومًا فى العقول التى لا تفكر بطريقة صحيحة، أو إن صدقت فى الأهواء والشهوات. ونتعلم من الهادى البشير أن نكون وسطًا بين الذين يرفضون الحضارة الغربية بكليتها، وبين الذين يأخذونها بخيرها وشرها دون تمييز، فالإسلام دين ديناميكى لا يخشى الانفتاح على الآخرين، ولا يتوجس خيفة من التفاعل معهم، فقد تفاعل من قبل مع كل الحضارات، وذهب إلى أقاصى الدنيا بدعاته وعلمائه وتجاره الذين أدخلوا الإسلام إلى كل مكان فى أقصى الأرض.

لقد تفاعلت الحضارة الإسلامية مع الحضارتين الفارسية والرومانية واقتبست منهما بعض أنماط الإدارة، ونظم الحكم، وترتيب الجيوش، وإقامة الدواوين «أى إنشاء الوزارات»، وتركت ما تعارض منها مع عقيدة الإسلام وثوابته. لقد أخذ النبى العظيم فكرة الخندق من الفرس، عُباد النار، واستفاد بها فى معركة الأحزاب، بل انتصر فيها، ولم يجد غضاضة من الاقتباس الحضارى من أمة تعبد النار. إن موقف الإسلام من الحضارات جميعًا، ومنها الحضارة الغربية، هو موقف الاصطفاء والانتقاء، نأخذ منها النافع لديننا ودنيانا، ونرفض الضار لهما، أو الذى يصطدم مع شريعتنا وهويتنا، «فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها».

إن الإسلام لم يمنعنا من الاستفادة من الآخرين، لكنه منعنا من أن نكون مجرد تابعين خاضعين لهم، أو أن نتشبه بهم فيما هو من شعائر دينهم أو خصائص عقيدتهم. أما ما سوى ذلك من تقدم علمى وعسكرى وتكنولوجى وإدارى وسياسى وتعليمى، فلا حرج أن نأخذ منهم ونستفيد منهم، ونتعلم على أيديهم لتطوير بلادنا وأمتنا وأنفسنا. إن مشكلة أمتنا أنها لم تستورد العدل الاجتماعى أو السياسى أو التقدم الحضارى والتكنولوجى من الأمم الأخرى، ولكنها استوردت ما يضرها، ولم تتعلم ما ينفعها، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتى استقطبت إسرائيل كل العلماء السوفييت العظام فى الفيزياء والكيمياء والذرة، أما العرب فقد استوردوا الراقصات والفاتنات الروسيات، فسعد كل منهما بصفقته. ونتعلم من رسالته الخالدة أن نكون وسطًا بين دعاة الثبات والانغلاق، حتى لو كان ذلك فى الآليات والوسائل، وبين دعاة التغيير حتى لو كان فى مبادئ الإسلام وغاياته العظمى وأركانه الأساسية، فعلينا أن نكون ثابتين فيما هو ثابت، ومتغيرين فيما يقبل التغيير والتطور، حتى يكون الإسلام مناسبًا بل ومصلحًا لكل الأزمان والبلاد والحضارات والشعوب. ونتعلم من رسالته أن نكون وسطًا بين أولئك الذى استغرقهم العمل السياسى حتى النخاع، حتى تحول عندهم من وسيلة إلى غاية، وتركوا طواعية ودون إجبار دعوتهم ليتحولوا إلى كيانات سياسية بائسة تريد ما تبقى من فتات المناصب، وتحسب أن قوة المنصب أعظم أثرًا من قوة الدعوة والهداية، وأصبح بعض أبناء الحركة الإسلامية لا يدورون إلا فى فلك السياسة حتى قلدوا من لا خلاق لهم، فأصبحوا يقومون بما يقومون به، ويستحلون ما يستحلونه، ويفعلون ما يفعلونه، مستخدمين الكذب والغيبة والخداع والمكر والغدر والوقيعة، ومؤخرين للأمانة والصدق والخلق الكريم والوفاء بالعهد إلى حين التمكين، وإقامة الدولة التى لم تقم أبدًا، ويبدو أنها لن تقوم، فأصبحت هذه الأخلاق جزءًا رئيسيًا من أخلاق البعض، وطبعاً أصيلا من طباعهم، فلا الدولة الإسلامية قامت، ولا الدين الإسلامى بقى فى النفوس والقلوب. ولا نريد كذلك الذين يهملون السياسة بالكلية بدعوى التفرغ للتربية الإسلامية، فيعكفون فى المساجد أو قاعات الدرس، فلا يشعرون بما حولهم، ولا يعرفون ما يحاك للإسلام فى كل مكان، ولا يدركون شيئاً عن واقعهم الوطنى والمحلى والإقليمى والدولى الذين يعملون ويدعون للإسلام فيه، ناسين تحذير النبى: «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم»، فمن لم يعرف واقعه، ولم يختلط بمجتمعه، فكيف سيعرف ما يحتاجه من الدعوة، وما يناسبه من الخطاب الإسلامى، وما يصلحه من الأحكام والآراء.

يا سيدى يا رسول الله، تعلمنا منك الوسطية فى الدين، وهى تعنى فى المقام الأول العدل والإنصاف، وليس إمساك العصا من المنتصف أو التحرر من ثوابت الدين، فيا سيدى الكريم، صاحب الخلق العظيم، نحن مقصرون فى العمل بهديك ورسالتك، لكننا سنسعى جاهدين للعمل بها، وتعليمها لأبنائنا وتبليغها للناس، عسى الله أن نكون من أهلها ودعاتها.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة