حين التحقت بكلية الآداب بالإسكندرية كان هدفى أن أدرس الفلسفة، مثلى يفكر أن يدرس اللغة العربية أو الإنجليزية أو الفرنسية، وكان مجموعى ودرجاتى تؤهلنى لدخول أى قسم من أقسام هذه اللغات.. قلت أنا أقرأ الأدب العربى كذلك أقرأ الأدب الإنجليزى والأدب الفرنسى، وكل آداب الدنيا، أنا كأديب قراءة الأدب حياتى، لكن الفلسفة ستعطينى بعدًا أعمق لفهم العالم والبشر الذين سأكتب عنهم.
كان أول من لفت نظرى أستاذًا كبيرًا فى علوم السياسة، هو المرحوم عبدالمعز نصر، كان يميل إلى المرح، وكان وهو يلقى علينا محاضرته يرشّق كلامه بمصطلحات بالإنجليزية، ويسأل: من يعرف معناها؟، الصمت يحط على المدرج وأهتف أنا بمعناها العربى، فيقول لى: «أنت مستنير». كان يقول هذه الكلمة لكل من يجيب عن أسئلته، ونحن نضحك ونتسابق على اللقب، حتى قال يومًا: إن كتابى به ثمانية فصول، سيكون الامتحان سؤالين فقط عن مفهوم الدولة عند أى اثنين من الفلاسفة فى الكتاب، فإذا أردت أن تنجح وتعمل موظفًا بالجمعية التعاونية فاقرأ فصلين فقط من كتابى، وإذا أردت أن تنجح بشكل أجمل فاقرأ الكتاب كله، وإذا أردت أن تكون أفضل منى عليك بالعودة إلى الأصول، حين أحدثك عن أفلاطون، وأرسطو، وكارل ماركس اقرأ أفلاطون وأرسطو وماركس، وكرر الكلمة بالإنجليزية «return to the origins».
أنفقت أعوامًا فى قراءة ما أستطيع من الأصول، وكان يمنحنى درجة امتياز لأننى حين أجيب عن الأسئلة آخذ دور الباحث، وأحدثه كيف قرأت الفيلسوف ومتى، وما أعجبنى، وما لم يعجبنى، ثم أجيب عن الأسئلة.. أذكر أننى مرة كتبت «لقد أحببت نيتشه وأنا بعد فى السادسة عشرة من عمرى حين قرأت كتاب الدكتورعبدالرحمن بدوى عنه»، ثم قرأت له: «هكذا تحدث زرادشت»، لكنى أدركت أن نيتشه مثالى شوفينى انتهت أفكاره إلى الدعوة النازية، ومن ثم أحببت كارل ماركس، صاحب الدعوة إلى الأممية، وجاء هو فى العام التالى، وسأل عن الذى فعل ذلك، قلت أنا، قال أعطيتك امتياز ولم أقرأ بقية الإجابة.
كان الأستاذ العظيم الثانى هو المرحوم الدكتور أحمد أبوزيد، أستاذ الأنثروبولوجيا، كان يشرح الدرس ثم يكتب عناوين الكتب التى يجب أن نقرأها على السبورة، ولم يفرض علينا كتابًا محددًا، وهكذا قرأت شيئًا من فريزر، ومارجريت ميد، وإدوارد بيرنت تايلور، وإيفانز بريتشارد، وغيرهم، الأصول، وكان يمنحنى أيضًا درجة امتياز، وكان هذا نادرًا جدًا، لكنه لا يسأل عنى فى العام التالى، كان جادًا ومحبوبًا، ومن يتأخر على محاضرته لا يدخلها، كان يقول لنا إن الامتحان سؤال واحد وأنا- هو يعنى- أبحث عن كيف تكتب لا ماذا تكتب.
الثالث كان الدكتور المرحوم عثمان أمين، وكان حكاية وحده، كان يصل من القاهرة يوم الأربعاء من كل أسبوع، ويأتى إلى المحاضرة فى الساعة الخامسة مساء وتنتهى فى السابعة، كان أستاذًا للفلسفة الحديثة، ويقول لنا اختاروا أى كتاب من كتبى أو كتب غيرى، وأجيبوا كما تشاءون فى أى موضوع فلسفى حتى لو تركتم سؤالى، أنا أبحث عن منهج البحث لا المعلومات، كان بعد المحاضرة يأتى معنا إلى شقة استأجرناها فى شارع بورسعيد، أظن رقم المنزل «188»، أو أنه شىء قريب من ذلك، يسهر معنا، وكنت أنا رغم أننى من الإسكندرية أعيش مع زملائى الغرباء فى الشقة، وأزور أهلى مرة أو مرتين فى الأسبوع، كنت أنا والدكتور فيما بعد شبل بدران، والمدرس فيما بعد وكاتب القصة نبيل سالم، والشاعر المغترب حسن عقل، ومؤلف المسرح سيد حافظ، والمخرج المسرحى فيما بعد مراد منير، والصحفى فيما بعد محمد رفاعى، كان يجمع بيننا حب الأدب والفن، وكنا من أكثر من كلية، وكنا- تقريبًا كلنا- يساريين، أو نميل لليسار ذلك الوقت.
كان بالنسبة لنا بحرًا من الذكريات له مع طه حسين والعقاد وسلامة موسى وغيرهم من كبار الكتاب والمفكرين، وكنت أنشر بعض مقالات نقدية وقصص يناقشها معى سعيدًا، ويتنبأ لى بمستقبل جميل، وذات ليلة انفعل أحد الأصدقاء، وهاجم الفلسفات المثالية كلها، بما فيها فلسفة عثمان أمين التى أسماها «الجوانية»، وقال الزميل إن الماركسية هى الحل.. كان انفعاله عنيفًا، مما تسبب فى توترنا، فالرجل قيمة كبيرة وأستاذنا، لكنا فوجئنا بعثمان أمين يبتسم ويقول له: هل تعرف من كان من تلامذتى من الماركسيين، وأحببتهم وأحبونى؟، عبدالرحمن الشرقاوى، وأمير إسكندر، أنا ليبرالى، وأحب النقاش معك، لكن لا أحب الضجيج، تفضل قل ما تشاء بالدليل والبرهان وعلى مهل.
كان هناك عظماء آخرون شجعونا على قراءة مراجع كتبهم، مثل المرحوم الدكتور على سامى النشار، أستاذ الفلسفة الإسلامية، والمرحوم الدكتور فتح الله خليف، أستاذ الفلسفة اليونانية، وكذلك الدكتور المرحوم محمد على أبوريان، أستاذ علم الجمال، لكننى لم أحصل على أكثر من جيد فى موادهم جميعًا. لم أحصل على ما يؤهلنى أن أكون معيدًا، لكننى تقدمت للدراسات العليا، وفى أول لقاء مع الدكتور محمد على أبوريان أنصت لى، وقال كيف لم تحصل على امتياز، قلت مبتسمًا «خطى وحش»، وكانت حقيقة، بدا عليه الأسف، شجعنى على الاستمرار، قال لى سأعطيك الماجستير فى سنة، والدكتوراة فى سنة، لكننى فى يوم لا أنساه قررت أن أترك الإسكندرية إلى القاهرة لأعيش حياة الصعلكة بين الأدباء.. أتذكر هؤلاء العظماء الآن معلنًا دينى الكبير لهم، هم الذين أجمعوا على أن قراءة أعمالهم فقط لا تجدى، لكن لابد من العودة للأصول. أنظر إلى حال الجامعة الآن، وأتحسر على ماجرى، لم يكن لهؤلاء كتب نجبر على شرائها، ولا «ملازم» يشتريها الطالب، ويوقع باسمه على «تيكيت» ملحق بها يذهب للأستاذ ليعرف من اشترى كتابه أو بحثه من الطلاب. شجعونا على القراءة باللغة الأجنبية التى نحبها، وكانت الإنجليزية فى حالتى، جعلوا من الدراسة متعة وجمالًا فائقًا، وجعلوا الجامعة تتسع بالنور والبهجة أكثر مما فيها من نور، فكلية الآداب قرب شاطئ البحر يمتد أمامها فى صباحات الشتاء الدافئ قوس قزح، يعلن أن السماء فرحانة بأبنائها على الأرض.