قبل عشرات السنين من الآن كان أهل مصر أكثر إدراكًا لأدواتهم، وأكثر فهمًا لواقعهم، وأكثر احترامًا لثقافتهم، وأكثر حرصًا على أخلاقهم، ومثلهم أهل الإعلام كانوا أكثر وعيًا لطبيعة وظيفتهم، يتفهمون تمامًا أن دورهم قيادة هذا المجتمع إلى مكان أفضل، دورهم الأساسى ينحصر فى الأخذ بيد هذا الوطن، والصعود به إلى محطة أعلى اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، أما الآن فقد تبدلت البوصلة، ولم يعد كثير من أهل الإعلام يرون فى مهنتهم سوى أداة لنفاق السلطة، طمعًا فى مكاسب، أو أداة لتجهيل الشعب، طمعًا فى الاستمرار، لذا كان طبيعيًا أن يكون شعار التليفزيون فى مصر قبل أكثر من 50 سنة من الآن «كله ثقافة وعلوم وفنون.. بيسلى تمام زى السيما.. التليفزيون علم سياسة توجيه أخبار.. أفلام عربية وغربية»، بينما الآن أصبح له شعار وحيد يقول: «كله شتايم وإباحة وجنون.. بيسلى تمام زى المصطبة.. التليفزيون جهل نفاق تطبيل تسخين.. أفلام ضحك ونصب وبلطجة».
لا تنظر إلى واقعة وائل الإبراشى والسبكى التى شهدت ألفاظًا خادشة للحياء على الهواء مباشرة على أنها حادثة فردية، فهى جزء أصيل من منظومة إعلامية قائمة على إهمال مصلحة الوطن والمجتمع لصالح صناعة أجواء ساخنة إعلاميًا، تزيد المشاهدات، وتجلب الإعلانات، وتبقى المذيع على كرسيه مادام الجمهور يراه فى نفس القفص وهو يسليه.
الإعلام يخسر بيده لا بيد الدولة.. أهل المهنة فى الصحافة والتليفزيون يشوهون صورته بمعاركهم الصغيرة، باستديوهاتهم التى جعلوا منها مصاطب للردح لا منابر للتنوير.
واقع الاستديوهات التى لا تعرف سوى التراشق باتهامات العمالة والتخوين دون دليل حى، أو حتى نصف حى، أو حتى دليل ميت، وحال البرامج التى لا تستخدم هاتفها سوى لسماع الأصوات الرياضية والسياسية التى تستخدم السيئ من الألفاظ فى توجيه السباب لكل مخالف معها، وطبيعة المذيعين الذين لا يرتاح هواء برامجهم ولا يسخن سوى باستضافة الشتامين ومروجى الجهل والشعوذة، يقول بأن أهل المهنة فى الصحافة والتليفزيون يشوهون صورته بمعاركهم الصغيرة، وبأخطائهم الكبيرة، بعضهم حوّل برامجه إلى ساحات للردح والابتزاز والشتائم، والبعض الآخر جعل منها أرضًا للخرافات، ونشر الجهل والأساطير، بينما أهل الصحف والكتابة تركوا أنفسهم فريسة لمواقع التواصل الاجتماعى تأكل هيبتهم بالمعلومات المغلوطة، وتسوقهم خلفها بالشائعات.
الإعلام انهزم بلا شك دون أن تضرب عليه الدولة طلقة واحدة، تطوع أهله فأهانوه حينما جعلوا من فضائياتهم بوابة يدخل منها كل جهل، وكل لفظ قبيح إلى منازل المواطنين، ومن قبل ذلك أفقدوه ثقة الناس حينما فشلوا فى التفرقة بين دعم الوطن، والتهليل للدولة، ولكن الثمن هنا لن يدفعه الإعلام بمفرده.
ثقة الناس فى وسائل الإعلام جزء من ثقتهم فى الدولة، الوطن يحتاج إلى حماية فى معاركه الكبيرة ضد الفساد والإرهاب والمخططات الإقليمية القائمة على التفكيك وتدمير الجيوش، وإعلام مصر الآن لم يعد حصنًا منيعًا، وكيف يكون كذلك وأهل مصر أنفسهم لا يصدقونه؟، بل لا يرونه سوى شاشة يتراقص فيها مذيعون مثل الأراجوزات، طمعًا فى مزيد من المشاهدة والشهرة، وكيف يقوم الإعلام المصرى بدوره كقاطرة لتنمية وعى هذا الوطن بهذا الدور وهو مشغول أصلًا بالمجلس الأعلى لدول العالم، والأصوات الصادرة من حلق أبناء السبكى، والشتائم السائلة على ألسنة سياسيين ورياضيين وفنانين، وهرتلات توفيق عكاشة، وطبلة أهل النفاق، وتقديم «السبت» و«الأحد» فى دولة بات واضحًا أنها لن تمنح أحدًا «الأربعاء» أو «الخميس».
2 - تكرار الرسالة أصبح شديد الملل، لكن تكرارها واجب حتى نصل إلى إجابة عن سؤال صعب يقول: كيف يمكن بناء وطن دون مشاركة أهله؟، كيف يمكن بناء وطن وأهم معدات بنائه تهدم فيه، وتدمر أعمدته فى حرب لن يربحوا من ورائها سوى فتات؟!.. لا يمكنك أن تؤسس لدولة على أطلال الصرخات الناتجة عن وسائل الإعلام، وحلقات التليفزيون الساخنة بالشتائم، أو الحديث فى الجنس، أو السخرية من الدين.
3 - كلنا مرتبكون، الأخلاق ضربوها فى الخلاط، وتاهت معالم خيوطها، وأصبح المنافق بطلًا، وتحول الذين كانوا يجلسون تحت أقدام كرسى النظام السابق إلى أبطال ثورة، ومناضلين، ومنظّرين، وخبراء، مثل كاتب طشة الملوخية الأستاذ ممتاز القط الذى ترك كل مشاكل مصر وخرج على الناس وهو دامع لأن الرئيس لم يجد وقتًا لـ«الشوبينج» خلال زيارته لأمريكا، ثم تبجح أكثر وأكثر واتهم المشاركين فى ثورة 25 يناير بأنهم مأجورون دون أن يجرؤ أن يخبرنا عن تفسيره لماذا حمى الجيش ثورة مأجورة؟، أو لماذا التقى السيسى وهو مدير للمخابرات كل هؤلاء الشباب المأجورين؟!.. القط أجبن من أن يسأل، وأقل إدراكًا من أن تأتيه إجابات عن تلك الأسئلة، هو فقط يكتب دومًا عن وجعه، لأن الرؤساء لا يأكلون الملوخية، ولا يتسوقون فى السفريات الخارجية، هذا أقصى ما يمكن أن يصل إليه عقله من تفكير.
هذا واقع يستدعى منك أن تجعل صوتك من عقلك، لا من برامج التوك شو، أو من صفحات الجرائد، أو من على ألسنة الشيوخ، كما يستدعى من الدولة الآن وأكثر من أى وقت مضى إدراكًا أعمق لواقع الإعلام قبل أن تدفع هى ثمن انهياره، لأنها حتى الآن، وبعد كل هذا الصبر لم تجد من رجال المال والإعلام دعمًا وطنيًا، ولا وجدت من الداعمين، أهل الطبلة والتهليل، أداء يرقى لحمايتها، بل على العكس وجدت منهم أفخاخًا تصنع لها الكثير من المشاكل، والجدل الذى يشغل الناس عما هو مفيد، لأن الحقيقة لا تكمن أبدًا بين طيات تلك الأحبال الصوتية التى تؤمن بأن «الجعير» والشتائم والحلقات الساخنة أهم بكثير من الهدوء والتفكير والبناء.
محمد الدسوقى رشدى
التليفزيون.. من مرحلة «كله ثقافة وعلوم وفنون» إلى «كله شتيمة وجهل »
الإثنين، 12 أكتوبر 2015 10:18 ص