تحدثنا فى مقالات سابقة عن الصمت وأسبابه المتعددة فى حياة الإنسان، وأهمية الصمت وقوة صاحبه فى وقت الغضب إذ يُبعد بالإنسان عن إمكانية إيذائه لمشاعر الآخرين.
الصمت أيضـًا مهم فى كثير من أوقات السخرية أو الاستهزاء التى تصدر من بعض الأشخاص تجاهك أو تجاه الآخرين، إذ أن التمادى فى الكلمات والحوارات غير اللائقة لن تكون له سوى تأثيرات سلبية فى الجميع؛ يقول الكتاب: "لا تُجاوب الأحمق بحسَب حماقته لئلا تَعدِله أنت"، ففى مثل هٰذه المناقشات والتعليقات لا يستطيع الناس التفريق بينكما! وفى أحاديث الاستهزاء بالآخرين، إن لم تتمكن من إيقافها، فالصمت والخروج من المكان هما أفضل السبل كى لا تكون سببـًا فى جَرح الآخرين.
كذٰلك يصمُت الإنسان حين يشعر أن من حوله لا يفهمون كلماته، ولا يستمعون إليها كما يقصِدها، بل كما يرغبون هم فى فَهمها . وما أعمق الألم الذى يشعره ذٰلك الإنسان عندما لا يفهمه أقرب الناس إليه! وهنا الصمت، وإن لم يفهم البشر مغزاه، يتحول فى أعماقه إلى أصوات بل صرخات مُدَوِّية ترتفع إلى أعنان السماء! إن هناك لحظات فى حياة كل منا يكون للصمت فيها دَوِى أعلى من الكلمات!
وإتقان الإنسان فن الصمت يحتاج إلى وقت طويل وتدريب حتى يتعلمه؛ يقول الكاتب الروائى "إرنست هِمِنجواى": "يحتاج الإنسان إلى سنتين ليتعلم الكلام، وخمسين سنة ليتعلم الصمت!"، ومن يُجيد فن الصمت يُتقن فن الكلمات.
إلا أن للكلام وقتـًا وللصمت وقتـًا آخر. وما أصعب أن يصمُت الإنسان حين يجب عليه أن يتحدث! يقول "مارتن لوثر كنج": "فى النهاية، لن نتذكر كلمات أعدائنا بل صمت أصدقائنا"؛ ففى اللحظات التى يشعر فيها الإنسان بألم الظلم، يجتاحه ألم أكبر وأعمق إزاء صمت البشر عن ظلمه ولاسيما الأصدقاء الأعزاء إلى قلبه؛ فهو ربما يتمكن من نسيان المواقف والكلمات الظالمة التى نُسبت إليه، لٰكنه لن يستطيع بسهولة نِسيان صمت من يعرِفونه حق المعرفة إزاء هٰذا الظلم. ومن أجمل العبارات التى قرأتُها فى هٰذا الصدد: "إن كنتَ محايدًا فى حالات الظلم، فإنك لم تختَر إلا أن تكون إلى جانب الظالم."، والصمتُ هنا هو محاولة للحياد، ولٰكنه يُعد ظلمـًا فوق ظلم متى كان صمتـًا عن الحق ونُصرة المظلوم. وللمظلوم أقول: لا تخَف، فإنْ صمتَ الكَون بأسره عن ظلم إنسان، فإن صلاتك ودموعك تهُزان السماء وتصلان إلى سِمْع الله القاضى للمظلومين.
وأيضـًا ما أصعب الصمت فى وقت يحتاج فيه الإنسان لكلمة تشجيع، أو تعزية، أو نصيحة هادئة، فى مسيرة حياته من أقرب الناس إليه! لأن فى هٰذه اللحظات تعد الصمت تجاهلـًا مؤلمـًا، ورفضـًا يحطم مشاعره. لذا دائمـًا فى مسيرة رحلة الحياة، قدِّم كلماتك ورعايتك إلى من يحتاجهما وإن لم يستحق! نعم، فجميعنا لا نستحق، ولٰكنّ الله ـ كلى الجود ـ لا يتخلى عن الإنسان الذى خلقه مستحقـًّا كان أو غير مستحق؛ يقوى فى أوقات الضعف، ويعزى فى الشدة، ويرشد فى التِّيه؛ وفى طريقك لا يتركك أبدًا.
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى .
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة