بعيدا عن التهويل أو التهوين، التطبيل أو الادعاء نحن بحاجة لقراءة المشهد الانتخابى بما يفيد فى التعرف على ما يجرى، وليس الاشتراك فى استقطاب بلا طائل. الأرقام النهائية فى المرحلة الأولى لانتخابات النواب تحدد بالضبط النسبة، وقبل أن تفتح اللجان كان هناك من يؤكد ضعف الإقبال، قبل أى حسابات مع ملاحظة أن نسبة الحضور فى الدول المستقرة 40 و30 %، والنسبة النهائية تظهر فى النهاية. لكن الحرص على دفع الناس للمشاركة يكشف عن رغبة فى الالتزام بالنسب الحقيقية بلا تلاعب. والانتقادات تتوجه إلى التدخل والتلاعب، ولا تتطرق لنسبة الحضور. والانتخابات اختيارية، مع الأخذ فى الاعتبار أن المشاركة تزيد من حزب الكنبة مع الشعور بالخطر وتتراجع مع الاطمئنان. والعزف يرجع أحيانا لشعور بأن النتيجة محسومة، ثم إن الناخبين فى دوائر كثيرة لا يعرفون المرشحين، هناك قوائم تم ترتيبها بعشوائية، وتضم خليطا غير متجانس، ووجوها بعضها مختلف عليه، قديم أو فاسد، أو وريث لمقعد وطنى سابق. وضع قوائم تشمل من العاصمة للصعيد، وهى قوائم واسعة ومعقدة. الناخبون لا يعرفون أسماء المرشحين وحتى لو لم تصلهم دعاوى المقاطعة، وهناك مبالغة فى قوة مرشحى الوطنى المنحل. يضاف لذلك غياب الرشاوى الانتخابية بالشكل الذى كان مع الوطنى والإخوان يفسد رغبة محترفى تلقى الرشاوى.
نسبة الحضور لن تؤثر كثيرا فى شكل مجلس نواب، الذى يتوقع الجميع أن يكون خليطا من كل الاتجاهات. التحليلات المتعجلة للتبرير أو التفسير تكتشف عن أن كل فريق يتصور نفسه الأكثر فهما، ويبالغ فى تأثيره بالرغم من أن النتائج تشير دائما لغياب التكتل الفاعل.
كل طرف من المبررين لضعف الإقبال أو المنظرين لهذا الضعف استخدم تفسيرات ونظريات جاهزة، ونسوا أن المعادلة أساسها حزب الأغلبية الصامتة «الكنبة» الذى يحدد مواقفه بعيدا عن الاستقطاب، وبحسابات خاصة معقدة، و«لا قانون ولا كتالوج محفوظا يمكن تطبيقه لتفسير الحضور والغياب». ولسنا أمام أحزاب ولا مؤسسات سياسية وإنما تجمعات وبؤر مصالح تضم الشامى على المغربى، وأحزاب هى بالطبيعة متنافرة ومختلفة. والأحزاب تعلق فشلها على السلطنة، ولا تبحث عن أسباب لفشلها وترك الساحة للفلول المفترضين.
نحن أمام سيل من المحللين لأسباب النزول، أو العزوف يقول «دا شعب مالوش كتالوج، ثم يتحدث عن عزوف عقابى، أو تراجع الثقة أو الخوف. لم يتطرق أحد لفراغ سياسى، وارتباك حزبى مع العجز عن التفرقة بين اليسار واليمين. ولو كانت هناك مقاطعة فمن دعا إليها، ومن استفاد منها. الإخوان، فهى مكررة، هم يعزفون على نغمة واحدة لا يغيرونها.
ساهم الإعلام الخاص فى هذا الارتباك عندما كان الداعون هم الشتامون أصحاب الضجيج والتهجم الفارغ، مع حملة غير موفقة ضد الدستور من جهلاء خلقوا شعورا بوجود اتجاه لتعديله من أجل صلاحيات ومدد أكثر للرئيس، ولم يخرج من ينفى هذا بشكل واضح ليغلق بابا فتح فى زمان ومكان غير مناسب.
المشاهد الافتتاحية بائسة، تفترض أن على الدولة والحكومة أن تدعو الناس للنزول، بينما الصورة لم يتم توضيحها، المشاهد الافتتاحية من الساعات الأولى للانتخابات بحشود تكون محفزا على النزول، استنادا إلى نظرية تقول إن الحشد يجذب المزيد. هى مشاهد شابها الارتباك بعض الإعلام كان مثل الدبة التى تقتل صاحبها، فالأمر لا يحتاج إلى هذه الهيستيريا فى الحشد، بقدر ما كان بحاجة إلى تعريف الناس بالأسماء والقوائم وخلق جدل ونقاش حولها.
أنصار المقاطعة بينهم الفريق المعتاد، وأيضا غاضبون من بين تحالف 30 يونيو، يرون أن التغيير ليس المأمول، وأن هناك وجوها قديمة أو محسوبة على الفلول. وساهم إعلاميو الشتائم والاستقطاب والصراخ فى الحالة، ثم كان خروجهم وكأنهم يشحتون على باب جامع، بعضهم أطلق تحذيرات على طريقة «ماتكسفوناش». أو الحكمة بأثر رجعى.
أكتر ناس من ينظرون فى ادعاء فهم «كتالوج» الشعب هم أكتر الناس فشلا فى كسب ثقة «الكتالوج»، مرة يقولون «شعب مالوش كتالوج»، وأخرى «أنه درس من الشعب»، وثالثا «شعب العواجيز». كل واحد يتصور أنه يفهم مفاتيح الشعب، بينما الأغلبية الصامتة على كنبتها تراقب كأنها ليست طرفا فيما يجرى، تبحث همومها مع الأسعار والدروس الخصوصية والدولار وتوقعات موجات ارتفاع الأسعار.
بعضهم لم ينزل لشعور بالاطمئنان، والبعض لشعور بالخوف، والارتباك وعدم وضوح الرؤية بسبب ارتباك النظام. هناك تجارب تشير إلى أن الاغلبية الصامتة تنزل مع الخوف. ويبقى مع الاطمئنان، وهى ليست كيانا واحدا بل هى معقدة ومكونة من فئات وطبقات. ترى معظم الأحزاب والتكتلات تنويعات على لحن واحد. لكن المشاركة فى الصعيد والريف أكثر من الحضر.
خسر محترفو التطبيل، ومعهم محترفو المقاطعة، ومعهم الإعلام فى تفهم مفاتيح الأغلبية. التى تستعصى على التطويع والتوجيه والتوقع. هناك قلق وارتباك وغضب وخوف، يحتاج قراءة، بعيدا عن التهويل والتهوين.