كنا قد تحدثنا فى المقال السابق عن أصحاب العقول المشوشة الذين يعانون من ضبابية الرؤية نتيجة انعدام التركيز الذى يفقدهم القدرة على الإبداع، وأن الأمر قد يتحول فى بعض الحالات إلى مرض مزمن، وحددنا على رأس تلك الأسباب نمط الحياة الخاطئ، وهيمنة التكنولوجيا عليها، وغياب الجانب الروحى الذى يحقق صفاء الروح والقلب . من ثم نحاول فى هذا المقال الإجابة على التساؤل: كيف أمنع التشويش لتصفو روحى؟
- الوسائل المادية.. تحكم فى مدخلات الجسد؛ فلابد أن تربى عقلك، وكل جسدك ليكون روحانيًا.. الأفكار فى عقلك مثل نهر جار.. لابد وأن تتحكم فيما يدخل لعقلك.. ماذا تشاهد؟.. ماذا تسمع؟.. ماذا تأكل؟.. امش قدر ما تستطيع.. صل واستمتع بصلاتك وليس لأداء الواجب.. استمع للموسيقى الجميلة بدلاً من الصاخبة.. لا تشاهد فيلم عنف أو مثير.. اختر نوعية الأكل.. إياك والخمور.. إياك والسمنة.. اختر نوعية الأصدقاء التى لا تفسد عقلك أو قلبك. باختصار: لا بد وأن تتحكم فى الأفكار التى تشوش على عقلك.. لابد أن تكون كل المدخلات لعقلك نظيفة لتصل لصفاء عقلك ويجب أن يصبح كل ذلك هو طريقة حياتك (Lif style).
-الوسائل النفسية : سلامة الصدر من الكراهية.. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله تعالى عنهما عندما قال النبى عليه الصلاة والسلام لأصحابه: "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة"، فقال هذا فى الليلة الأولى، فدخل رجل لا يعرفونه، هو من الصحابة، لكنه غير مشهور وغير معروف، وفى الليلة الثانية قال النبى صلى الله عليه وسلم نفس الكلام فكان هو نفس الشخص، وفى الليلة الثالثة قال نفس الكلام فكان هو نفس الشخص. فتعجب عبد الله بن عمرو: كيف يقول النبى صلى الله عليه وسلم هذه البشريات الثلاث لصحابى مغمور ولا يعرف الناس عنه شيئًا، فى حين أنه ما قال هذا الكلام لكل الصحابة رضى الله تعالى عنهم؟!
فذهب إلى هذا الرجل وقال: أنا بينى وبين أبى خلاف وأريد أن أكون عندك، فقال له: مرحبًا بابن أخى الكريم الفاضل.. ثلاثة أيام وجد الرجل صلاته عادية وعبادته عادية وما عنده ذاك الجهد الكبير ككبار الصحابة.. فلما انتهت الثلاثة أيام قال: يا عم! أريد أن أخبرك الحقيقة، أنا لم يكن بينى وبين أبى خلاف، ولكن النبى صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا فأردت أن أتأكد منه، قال: هو ما رأيت يا ابن أخِى.. هذا الذى رأيته، يعنى: عبادة عادية: يصلى الفروض، يصلى بعض النوافل، ليس مجتهدًا فى الصيام ولا فى القيام ولا فى غيره، وإنما عبادات عادية جدًّا. فولَّى عبد الله بن عمرو رضى الله تعالى عنه، وتعجب لماذا بشره النبى صلى الله عليه وسلم بهذه البشرى؟! فلما انصرف ناداه هذا الصحابى وقال: يا ابن أخِي! غير أنى أبيت ولا أحمل فى صدرى حقدًا ولا حسدًا لأحد.. يعنى: أى واحد يُخطئ على أنا لا أحمل فى صدرى عليه أى شيء، وأسامح كل من يتعامل معي. فقال ابن عمرو: بها أوتيت بشرى النبى صلى الله عليه وسلم.
- وسائل إيمانية خاصة بروحك: صل بتركيز.. الصلاة معناها أطفئ كل الماكينات التى تعمل حتى إنها اقتربت على الاحتراق.. النبى يقول محذرًا من الانشغال عن سماع خطبة الجمعة "من مس الحصى فقد لغى".. والخشوع روح الصلاة.. فصلاة بلا خشوع كجسد بلا روح.. لكن كيف أحقق الخشوع فى الصلاة؟.. بداية هذا السؤال خطأ!! فالخشوع فى بدايته تركيز وبالتالى السؤال ليس كيف أخشع وإنما أركز، لأن التركيز سيؤدى للخشوع، فالصلاة ليست مجرد حركات تؤديها بلا حضور أو فهم لما يتلى من كتاب الله .
ولهذا: بينما النبى صلى الله عليه وسلم جالس فى المسجد ذات مرة إذ دخل رجل فسلم على النبى صلى الله عليه وسلم.. فرد عليه، ثم قام الرجل فصلى، فلما انتهى من صلاته ذهب إلى النبى صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فرد عليه النبى صلى الله عليه وسلم سلامه ثم قال له: "ارجع فصل فانك لم تصل!" فذهب فصلى ثم عاد فسلم ، فرد النبى صلى الله عليه وسلم عليه، ثم أعاد الأمر مرة ثانية: "ارجع فانك لم تصل" ففعل الرجل ثم عاد فسلم فرد عليه الرسول، ثم أمره أن يعيد الصلاة مرة أخرى ! قال الرجل: "والذى بعثك بالحق.. ما أحسن غيرها.. فعلمن" فقال له الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم: "إذا قمت إلى الصلاة فكبّر، ثم اقرأ معك ما تيسر من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا ، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم اجلس حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجًدا، واجعل ذلك فى صلاتك كلها" رواه البخارى .
لكن ما علاقة كل ما سبق بالتجديد؟.. الإجابة: بداية الإبداع عقل مستقر مركز ليجدد أو حتى يفهم فكر التجديد.. ركز وتذوق.. والصلاة تساعد على تحقيق هذا، تحقق الهدوء النفسى والصفاء الروحى، بما يساعد الإنسان على التأمل والتفكير.. ليكون فى النهاية شخصًا مبدعًا.