محمد الدسوقى رشدى

الاغتيال الثانى للحسين فى القاهرة

الأحد، 25 أكتوبر 2015 10:02 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا يسكن التطرف أسفل اللحى الكثيفة، أحيانًا يتخذ من أسفل العمة الأزهرية مسكنًا، وفى تلك الحالة هو أخطر بكثير.

ابحث عن البؤس واحتضنه فلقد وصلنا إلى وضع استقطابى أصبح فيه المادح لسيدنا الحسين وأهل بيت النبى عليه أفضل الصلاة والسلام نواة لتشكيل خلية شيعية، أو طرف خيط لبكرة أكبر منه تخطط لإفساد العقيدة.

يخشى وزير الأوقاف محمد مختار جمعة من «التشيع»، والعلم فى تلك الحالة يقول بأنه على الوزير أن يتحرك سريعًا لتأهيل رجال منابره، والسيطرة على المساجد والزوايا، وبذل الجهد والبحث والدرس من أجل تجديد الخطاب الدينى، لكنّ شيئًا من ذلك لم يحدث، يقول الوزير إنه يسيطر على المساجد، وكل ما يفعله هو مطاردة الإخوان بداخلها، ويقول إنه يجتهد لإعادة تأهيل الأئمة، وكل ما يفعله هو توزيع خطبة موحدة يمل منها الملل ذاته، ويقول الوزير إنه يجدد الخطاب الدينى، ولم نرَ فى وزارته أى تجديد سوى لألوان حوائط مكتبه.. فأى خطوة اتخذها فى الواقع إذن؟!

فيما يشبه الاغتيال الثانى لسيدنا الحسين، قرر وزير الأوقاف إغلاق مسجد وضريح حفيد النبى عليه الصلاة والسلام فى عاشوراء، فى ذكرى استشهاده، لمدة ثلاثة أيام بحجة الخوف من الممارسات الشيعية.
لا يعرف الوزير أن قرار الغلق يشبه إلى حد كبير قرارات لاعبى خط الدفاع العاجزين والفاشلين الذين كلما اضطرب بهم الحال مع الكرة ذهبوا بها إلى سكة السلامة، وأخرجوها «للأوت»، هؤلاء يا معالى الوزير لا يحبهم الجمهور، بل يشفق عليهم بسبب ضعفهم وعجزهم وقلة حيلتهم.

قرار الغلق اعتراف رسمى من وزير أوقاف مصر بأن وزارته بكل إمكانياتها، ومصر بكل أزهرها، أضعف من أن تواجه ما يريدون تسميته بـ«التشيع»، بينما هو فى الأصل احتفال بزهرة شباب أهل الجنة الحسين رضى الله عنه. يخشى وزير الأوقاف من بعض التصرفات الشيعية كما يقول، وهو بخشيته هذه يعترف بأن دين المصريين المسؤول هو عن حفظه، وتنمية فهم المواطن له ضعيف لدرجة أن ليلة احتفال واحدة تحدث منذ مئات السنين قد تضيعه.

يحتفل المصريون بميلاد واستشهاد الحسين منذ مئات السنين، ولم يتشيع أحد، ولم نرَ مصريًا واحدًا يفعل كما يفعل أهل كربلاء من الشيعة، كانت الحرية وقتها تمنح العقل المصرى حصانة، على العكس من الخوف وما يأتى به من ضعف وانهيار.

وبعيدًا عن القرار الوزارى الخائب الذى يشكك فى متانة العقيدة الدينية المصرية لدرجة الخوف عليها من ممارسات قد تحدث أو لا تحدث، يبقى قرار إغلاق ضريح سيدنا الحسين فى مناسبة استشهاده، ودفع عدد من العاملين بالأوقاف لمراقبة العتبات المقدسة منعًا لأى ممارسات شيعية، وانضمام بعض السلفيين لتلك الحملة، هو فى الأصل تعدٍ على حرية الاعتقاد، وحرية ممارسة الشعائر الدينية التى يكفلها الدستور، وفى الوقت نفسه يأتى قرار وزير الأوقاف، وكأنه يتبنى مفاهيم السلفيين المتطرفين عن شكل الدولة المصرية التى يجب أن تحارب كل المفاهيم المختلفة مع الفكر السلفى، حتى ولو كانت هذه المفاهيم جزءًا من هوية الدولة المصرية وروحها.

الذين يدعون الخوف على المصريين من التشيع، ومن الاحتفال بحفيد الرسول الكريم الحسين بن على، لا يعرفون أبدًا طبيعة العلاقة بين المصريين وسيدنا الحسين.. هو أسطورة شعبية قبل أن يكون حفيد بيت النبوة، هو رمز لنصرة الحق قبل أن يكون ابن سيدنا على بن أبى طالب وسيدتنا فاطمة الزهراء، ضريحه فى القاهرة ملجأ يتشبث به الضعفاء والمقهورون، لا بغرض العبادة ولا الوساطة كما يقول الجهلاء، بل إنهم يستمدون من قصته وجهاده مددًا يعينهم على مظالم الدنيا.

الخيال الشعبى يصنع الأساطير حسب الحاجة، يبحث عن القيم المفقودة، وينسج لها قصة أسطورية ليتعايش معها، تعوضه عن المفقود فى الواقع، وتزرع بداخله حالة من الرضا، ويستخدم قصته هذه فيما بعد كوسيلة لتربية نفسه وأجياله القادمة، وأحيانا قد تقدم الحياة للخيال الشعبى قصة كاملة على طبق من فضة، مطابقة للمواصفات الأسطورية، ولا تنقصها حبكة هنا أو عقدة هناك، أو درس مستفاد يختم به الراوى قصته بالشكل الذى يريد.

بهذه الطريقة حوّل الناس حياة سيدنا الحسين وموته، من مجرد حدث تاريخى مهم، إلى أسطورة متكاملة الأركان، ملهمة، عاطفية، ومنها تتغذى ثقافات، وعلى أنقاضها تتربى أجيال، وربما كانت الحاجة إلى بطل آخر يسعى لمواجهة الظلم بشجاعة، ويدافع عن المقهورين ضمن الأسباب التى حولت حياة سيدنا الحسين إلى أسطورة دينية تاريخية شعبية.

من هنا يأتى اختلاف أسطورة سيدنا الحسين الواقعية عن بقية الأساطير الأخرى التى تسيطر على الخيال الشعبى، من تلك المنطقة التى يضعف أمامها جموع الناس السائرين فى الشوارع، فالبطل هنا ليس مجرد فتى شجاع حارب بمفرده الأعداء، البطل هنا ابن بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم.. المستضعف والمظلوم هنا، هو سيد شباب أهل الجنة وريحانتها مع أخيه الحسن.

يقول عنه الرسول هو وأخيه الحسن: «هذان ابناى فمن أحبهما فقد أحبنى»، ويقول عنه ابن كثير: «كل مسلم ينبغى له أن يحزنه قتل الحسين رضى الله عنه، فإنه من سادات المسلمين، وعلماء الصحابة، وقد كان عابدًا وسخيًا، ولكن لا يحسن ما يفعله الناس من إظهار الجزع والحزن الذى لعل أكثره تصنع ورياء».. أما الدراما فى سيرة سيدنا الحسين فقد بدأت حينما بدأ صراعه مع يزيد بن معاوية، بدأت الأحداث التى نسجها الناس كأسطورة خلدوها لاستخلاص القيم منها، معارك وكر وفر وأقلية تحارب أكثرية، ومستضعفون ينتمون لبيت النبى يحملون سيف الحق فى مواجهة سيف الباطل، ونهاية دموية للحسين أخبر الوحى بها النبى منذ كان الحسين صغيرًا يلعب بين يديه الشريفتين.

ومما يعطى للأمر أهمية ويزيد الأمور سخونة وتشويقًا لدى الناس، أن الملحمة هنا بدأت على أرضية سياسية، صراع من النوع الذى يحبه رجل الشارع، صراع على الحكم بين من أيده الناس، وبين صاحب القوة، صراع تفاصيله واضحة، وضحاياه معلومون بشكل يقدم الوجه القبيح للعبة السياسية.

بلغ أهل العراق أن الحسين لم يبايع يزيد بن معاوية وذلك سنة 60 هـ فأرسلوا إليه الرسل والكتب يدعونه فيها إلى البيعة، عند ذلك أرسل الحسين، مسلم بن عقيل ليتقصى الأمور، ويتعرف على حقيقة البيعة وجليتها، فلما وصل مسلم إلى الكوفة تيقن أن الناس يريدون الحسين، فبايعه الناس على بيعة الحسين فى دار هانئ بن عروة، ولما بلغ الأمر يزيد بن معاوية فى الشام أرسل إلى عبيد الله بن زياد، والى البصرة، ليعالج هذه القضية، ويمنع أهل الكوفة من الخروج عليه مع الحسين، فدخل عبيد الله بن زياد إلى الكوفة، فخرج مسلم بن عقيل على عبيد الله بن زياد وحاصر قصره بأربعة آلاف من مؤيديه وقت الظهيرة، فقام فيهم عبيد الله بن زياد، وخوفهم بجيش الشام، ورغبهم ورهبهم فصاروا ينصرفون عنه حتى لم يبق معه إلا ثلاثون رجلاً فقط.

وما غابت الشمس إلا ومسلم بن عقيل وحده ليس معه أحد، فقبض عليه وأمر عبيد الله بن زياد بقتله فطلب منه مسلم أن يرسل رسالة إلى الحسين فأذن له عبيد الله، فكتب يقول: «ارجع بأهلك ولا يغرنّك أهل الكوفة، فإن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبونى وليس لكاذب رأى».

البطل هنا يتعرض للخيانة، الناس تنفض من حول ابن بنت رسول الله.. فهل تريد أكثر من ذلك حدثًا لكى يسكب الناس تعاطفهم ودموعهم بين يدى الحسين؟، وجاء الحسين خبر مسلم بن عقيل، فانطلق الحسين يسير فى طريق الشام نحو يزيد، وحتى تكتمل الأزمة وتزداد سخونة الملحمة يقطع جيش اليزيد- بقيادة عمرو بن سعد، وشمر بن ذى الجوشن، وحصين بن تميم- الطريق على سيدنا الحسين فى مكان يدعى كربلاء قرب نهر الفرات، ويمنعون الماء عن الأطفال والنساء، لتبدأ معركة شرسة سقط فيها خمسون شهيدًا، وبقى مع الحسين عدد قليل من أصحابه وأهل بيته، سرعان ما استشهدوا وبقى سيدنا الحسين وحيدًا، فودّع عياله وأمرهم بالصبر والتحمل فى سبيل الله، ثم ركب جواده وتقدم يقاتل آلاف الجنود وحده، حتى سقط شهيدًا، فتقدمت زينب بشجاعة إلى جثمان أخيها الحسين، ووضعت يديها تحت الجسد الطاهر، ورفعت رأسها إلى السماء، وقالت بخشوع: «إلهى تقبّل منا هذا القربان».

ثم تكتمل الأسطورة بقطع رأس سيدنا الحسين، ويتحول دعاؤه صبيحة يوم المعركة إلى أيقونة يحفظها ويرددها كل من مرت به ضائقة: «اللهم أنت ثقتى من كل كرب، ورجائى من كل شدة، وأنت لى فى كل أمر ثقة وعدة، فكم من هم يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، فأنزلته بك وشكوته إليك رغبة فيه إليك عمن سواك، ففرجته وكشفته وكفيتنيه، فأنت ولى كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل غاية يا رب العالمين».

الخيال الشعبى لم يترك الأحداث التاريخية لرواية مقتل الحسين على حالها، وتدخل أحيانًا، بالإضافة إلى سير المعركة، وما حدث بعدها، إضافات جاءت أغلبها لتزيد من وصف معاناة الحسين فى مواجهة يزيد بن معاوية وجيشه، وكيف تفاعلت الطبيعة مع مقتل الحسين.. الإضافات كلها جاءت لتصب فى مصلحة التعاطف مع الحسين، وكأن الخيال الشعبى بحث عن طريقة يدافع بها عن الحسين الذى خذله أهل الكوفة فلم يجد أكثر من الزيادة فى تشويه صورة أعدائه، وإظهار بغضهم، ومدى غلظتهم، ليسحب من تحت أقدامهم أى مبرر قد يستخدمونه للدفاع عن أنفسهم.

ربما كانت هذه الإضافات سلاح الناس الغلابة الذين تمنوا لو أن الزمن عاد بهم إلى كربلاء ليدافعوا عن ابن بنت رسول الله، ولكن لأن الزمن لا يعود أبدًا، فلم يعد أمام الناس إلا ما يستخلصونه من أسطورة سيدنا الحسين، وأن يؤمنوا بأن المبادئ التى قُتل من أجلها الحسين لا تزال باقية حية فى قلوب الناس، بدليل أن يزيد بن معاوية مكانه الطبيعى الصفحات الأخيرة فى كتب التاريخ، بينما الحسين يتصدر المشهد، ويزحف إليه الملايين، طالبين المدد وهم على يقين بأن الحسين هو الذى انتصر.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة