كل كتب الإعلام باللغة العربية باسثناءات قليلة للغاية تعرف الإعلام بطريقة خاطئة تزيف وعى الطلاب والجمهور، تدعى هذه الكتب أن الإعلام هو كل أوجه النشاط الاتصالية التى تستهدف تزويد الجمهور بكل الحقائق والأخبار الصحيحة والمعلومات السليمة عن القضايا والموضوعات والمشكلات ومجريات الأمور بطريقة موضوعية وبدون تحريف، بما يؤدى إلى خلق أكبر درجة ممكنة من المعرفة والوعى والإدراك لدى فئات جمهور المتلقين.
هذا التعريف السابق للإعلام، الذى يتكرر بصيغ مختلفة فى الكتب الدراسية والبحوث الإعلامية يقدم صورة مثالية غير موجودة فى أرض الواقع السياسى والاجتماعى وفى كل مجالات الاتصال والإعلام، فمن غير المنطقى، ومن المستحيل أن نصدق أو نعتقد بوجود إعلام يقدم الأحداث والوقائع بطريقة موضوعية وبدون تحريف وبهدف خلق أكبر درجة ممكنة من المعرفة والوعى والإدراك، كما يدعى التعريف السابق للإعلام، فى المقابل من المنطقى والمعقول أن نصدق ونؤمن بأن من يملك وسائل الإعلام يؤثر بطرق مباشرة وغير مباشرة فى عملها وفى تغطيتها للأحداث، كما أن الدخل من الإعلان يمثل إحدى آليات التأثير فى عمل وسائل الإعلام، وكما هو معروف فلا توجد وسيلة إعلام واحدة، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، تعمل بدون الاعتماد بنسبة صغيرة أو كبيرة على الدخل من الإعلانات، هذه الإعلانات تعبر عن مصالح شركات ورجال أعمال، وأحيانا دول وحكومات.
خلاصة القول، لا يمكن القبول بالتعريف أو المفهوم المدرسى للإعلام، لأنه يتحدث عن أوضاع غير موجودة فى أرض الواقع، بل إن كثيرا من أحداث ومجريات التاريخ تكذبها وتنفى صحتها، ولكن يمكن القبول بهذا المفهوم باعتباره أمراً افتراضياً أو وصفاً مثالياً تسعى البشرية للوصول إليه، وأعتقد أنه من الصعب الوصول إليه، وكل ما يمكن تحقيقه هو اعتبار هذا المفهوم نموذجًا مثاليًّا أو غاية عليا على الإعلام والعاملين فى وسائل الإعلام النضال والعمل من أجل بلوغه.
أما من الناحية الواقعية فإن علينا أن نعترف ونتعلم ونعمل ونتعامل مع كل وسائل الإعلام القديمة والجديدة بما فيها مواقع الإنترنت والصحافة الإلكترونية على أساس أنها تقدم يومياً وفى كل لحظة مزيجاً متغيراً وغير متوازن من الإعلام بمفهومه المثالى والدعاية بمفهومها وأبعادها ودلالاتها السلبية، هذا المزيج يتكون من عناصر موضوعية وشكلية تنتمى لعالم الإعلام والإعلان والدعاية والترويج والعلاقات العامة.
ولذلك أقترح وأدعو إلى التعامل فى بحوثنا العملية واستخداماتنا اليومية لوسائل الإعلام على أساس أن الدعاية والإعلام، على وجه التحديد، متصل أحد طرفيها- الإعلام- كعملية قائمة على نشر الأخبار والمعلومات والآراء بصورة محايدة وموضوعية- أى الإعلام بمفهومه الافتراضى أو المثالى- بينما تقع الدعاية على الطرف الثانى كعملية قائمة على التشويه والتدخل وحجب المعلومات والآراء أو تلوينها بحسب أهداف ومصالح الأشخاص والقوى الاجتماعية التى تتحكم فى وسائل الإعلام وتسيطر عليها. إن الفكرة الرئيسية لتصوير العلاقة بين الإعلام والدعاية بأنواعها على شكل هذا المتصل تسعى إلى تقديم نموذج واقعى يتسم بالنسبية لتلك العلاقة، فهذا النموذج لا يفترض الكمال فى تحقيق الموضوعية والحياد أو الكمال فى بلوغ أسوأ درجات الدعاية، ومثل هذا المنحى الواقعى تؤكده شواهد الواقع والتاريخ المعاصر، فلا وسائل الإعلام تقدم الحقائق فى صورة موضوعية مجردة، ولا رجال الدعاية من السذاجة بحيث يقدمون أكاذيب مكشوفة كما هو الحال فى نموذج الدعاية السوداء، إن الطرفين إذا جاز القول- ووفقا للتعريفات التقليدية للدعاية – يقدمان دعاية رمادية.
إن ما أدعو إليه هنا هو أهمية بل وضرورة الالتزام بنظرة نسبية وعدم الثقة الساذجة فيما تقدمه وسائل الإعلام يومياً بل ولحظياً للجمهور، ومن ثم على أفراد الجمهور ممارسة التفكير النقدى فيما يقدم إليهم، خاصة أن بمقدور أى فرد من أفراد الجمهور متابعة حدث أو خبر عبر عدة وسائل إعلام، علاوة على وسائل التواصل الاجتماعى والمقارنة بينها، حيث سيكتشف درجات الاختلاف والتنوع فى مدى دقة وعمق وشمول تغطية هذا الخبر أو الحدث.